أخبرني بعض من زار المناطق المحررة في سوريا مؤخراً أن تنظيم الدولة الإسلامية يُلزم النساء في مناطق نفوذه بغطاء الوجه، وأرسل إليّ أحد الإخوة تسجيلاً قديماً تعرض فيه دولةُ العراق عقيدتَها بصوت أميرها السابق أبي عمر البغدادي، وفيه تسعة عشر أصلاً عقيدياً، يقول في أحدها: “نوجب على المرأة وجوباً شرعياً ستر وجهها”. فاستغربت من أمرين لا يدلاّن على علم: إدخال مسألة من مسائل الفقه وسط مسائل العقيدة واعتبارها منها، وجهل (أو تجاهل) أنها من المسائل الخلافية المشهورة في الفقه الإسلامي.
إن من أهم قواعد الحسبة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي قررها العلماء أن لا يضيّق المحتسبُ واسعاً ولا ينهى عن أمر فيه خلاف بين أهل العلم. قال الإمام النووي في شرح الأربعين: “العلماء إنما ينكرون ما أُجمع عليه، أما المختلَف فيه فلا إنكار فيه”. وقال الحافظ ابن رجب في “جامع العلوم والحكم”: “المنكر الذي يجب إنكاره هو ما كان مجمَعاً عليه، أما المختلَف فيه فلا يجب إنكاره على من فعله مجتهداً فيه أو مقلداً لمجتهد تقليداً سائغاً”. وفي “بحر العلوم” للسمرقندي: “رُوي عن سفيان الثوري أنه قال: إنما يجب النهي عن المنكر إذا فعل فعلاً يخرج عن الاختلاف، أي اختلاف العلماء”.
لقد اختلف الفقهاء في آلاف المسائل الفرعية، ولو أراد الله لدينه أن يكون على رأي واحد لكان، فإنّ مَن أنزل القرآن الذي أعجز أمراء البيان في كل زمان أن ينسجوا على نَسَقه سورة، بل آية، ما كان يعجزه أن يفصّل القول في كل مسألة بأوضح كلام فلا تختلف الأفهام ولا تتفرع الأحكام، ولكن الله أراد أن تتنوع الأحكام وأراد أن يتسع الدين ويسع أصحابَ الهمم والقدرات المتفاوتة، فمن ظن أنه أحرص على دين الله من الله فقد اجترأ على الله واتهمه بالنقص والعياذُ بالله.
ليس حكم وجه المرأة هو موضوع هذه المقالة، وما ذكرته إلا لأنه واحد من أشهر الأمثلة على المسائل الخلافية وأطولها بحثاً، فهو مسألة اختلف فيها أهل العلم -من فقهاء ومفسرين ومحدّثين- قديماً وحديثاً لأنها لم يَرِدْ فيها نصٌّ قطعي الثبوت قطعي الدلالة، فكيف يأتي قوم فيُلزمون الناس بما لم يلزمهم به الله وبما ترك لهم فيه الاختيار بين حكم وحكم، فيختارون الأعسر وهو قول مرجوح ويتركون الأيسر وهو القول الراجح؟ ولماذا يجعلونها من كبريات المسائل فيشغلون بها الناس ويرفعونها إلى درجة مسائل الاعتقاد؟
من حق أي كان أن يرجّح ويختار لنفسه ما يشاء من المذاهب المختلفة في المسألة الخلافية، ولكن لا يحق له أن يُلزم غيرَه باختياره، فإن عدم وجود نص قطعي وحكم واحد في ذلك النوع من المسائل هو من علامات رحمة الله بالخلق وإرادته في التوسعة على الناس، فلا يَحِلّ لمخلوق أن يضيّق ما وسّعَه الله، ولا يجوز لمحتسب أن يتعصب لاختياره ويتجاهل آراء الفقهاء المختلفة أو يخفيها انتصاراً لرأيه وهواه.
ومن أعجب العجب أني وجدت علماء أجلاء في بعض البلدان الإسلامية يتشددون على النساء في هذا الأمر الخلافي فيصرّون على وجوب ستر الوجه ولا يقبلون بالرأي الآخر، بل لا يعترفون به أصلاً، رغم ما في ذلك من تعسير على ملايين الفتيات والنساء، ثم يختارون أيسر الفتاوى لولي الأمر في شؤون المال والسياسة. ليتهم قرؤوا ما قرره الإمام القرافي في هذا الباب: “إذا كان في المسألة قولان، أحدهما فيه تشديد والآخر فيه تخفيف، فلا ينبغي للمفتي أن يفتي العامة بالتشديد والخواص من ولاة الأمور بالتخفيف، فإن ذلك قريب من الفسوق والخيانة في الدين والتلاعب بالمسلمين، ودليل فراغ القلب من تعظيم الله وعمارته باللعب وحب الرياسة والتقرب إلى الخلق دون الخالق، نعوذ بالله من صفات الغافلين”.
ملاحظة: ترك بعض الأفاضل الفكرةَ الرئيسية في المقالة الماضية واشتغلوا بمثال المسح على الجوارب حتى ملأ النقاشُ فيه ثلاثَ صفحات فولسكاب. إذا اتبعنا المنهج نفسه مع هذه المقالة فسوف نحتاج إلى مجلدين لتحرير مسألة وجه المرأة: هل هو من العورة أو ليس منها؟
فأرجو عدم الاشتغال بالمثال، وأتمنى أن لا يحاول أحدٌ من قرّاء هذه المقالة أن يقنع الناس برأيه، سواء أكان رأيه أن الوجه من العورة أو ليس منها، فليس من شأننا هنا تحرير الخلاف في هذه المسألة، وهو خلاف وسع الأمة على مدى القرون فلا يتفاءَلْ بعضُ المتحمسين بأنهم يمكن أن يحسموه ببضع كلمات، فلا تجرّونا إلى نقاشات لا طائل منها يرحمكم الله.
هذا مع التأكيد على أن القول بأن الوجه ليس عورةً واجبةَ الستر هو اختيار جمهور فقهاء الأمة منذ عصر الصحابة إلى اليوم، وهو المعتمَد في المذاهب الثلاثة وفي غيرها؛ قال النووي في المجموع: عورة المرأة الحرة جميع بدنها إلا الوجه والكفين؛ وبه قال الشافعي ومالك وأبو حنيفة الأوزاعي وأبو ثور وطائفة، وهو رواية عن أحمد، وهو أيضاً مذهب داود وابن حزم، وقال أبو حنيفة والثوري والمزني: قدماها أيضاً ليستا بعورة. اهـ.