لو علمتَ أن صديقاً لك يقصّر في الصلاة فيؤخرها بلا عذر أو يتركها حتى يخرج الوقت فإنك تنصحه وتحببه في المحافظة على الصلاة في وقتها. ألا تفعل؟ بلى، فإن أفضلية الصلاة في وقتها مما هو معلوم من الدين بالضرورة. وكذلك تصنع مَن رأت من صاحبتها تهاوناً في حجابها بكشف بعض رأسها أو ارتداء ما يجسّم العورةَ من الثياب الضيقة.
هذه أمثلة لحالات شائعة يتناصح فيها الناس ويذكّر بعضُهم بعضاً، والتذكرة فيها صحيحة والنصيحة فيها واجبة، ما حافظت على شروطها من الرفق واللين، وما كان هدفها خالصاً لله لا للتعالم والتعالي على الناس. ولكننا نجد مقابلَها حالات أخرى، أصحابُها أوجَبُ لسماع النصيحة والناصحون أزهدُ بها وأضيَعُ لها. مثلاً: قد يعلم الرجل الذي نصح صاحبَه الذي يقصر في الصلاة أنه يظلم عمّاله ويأكل حقوقهم بالباطل، ثم لا ينصحه ولا ينهاه عن العدوان. وقد تعلم المرأة التي نصحت صاحبتها التي تقصّر في حجابها أنها تغتاب صواحبها وتسعى بينهنّ بالنميمة فتفسد الود وتزرع البغضاء وتتسبب في القطيعة، ثم لا تنصحها ولا تنهاها عن تلك الخطيئات الكبيرات.
لماذا؟ لأن في أكثر موازين الناس خللاً واعتلالاً يشوّه الوزن، وقد يكبّر الصغير ويصغّر الكبير! وهو خلل عجيب يظهر أكثرَ ما يظهر في الذنوب التي تنشأ عن معاملات الناس، كغش البياعين للمشترين واستغلال المؤجرين للمستأجرين وظلم أرباب الأعمال للعاملين… هذه وأمثالها لا يقوم بها أصحابُها في خفاء، بل إنها تكون غالباً ممارسات واضحة يراها الأقارب والأصدقاء، ولكنهم لا يكترثون بنصح أصحابها كما يفعلون لو رأوا منهم تقصيراً واضحاً في الصلاة وسائر العبادات.
إن هذه كلها داخلة في الحسبة الواجبة على كل قادر، فالنصيحة حق لكل مسلم على كل مسلم، وهي مخالفات شرعية تحيط بنا عن يمين ويسار ومن خلف وأمام، فلا نلتفت حوالينا إلا ونرى أمثلة لها من أقرب المقربين إلينا، ولكننا نتغاضى غالباً عنها لأننا لا نراها ذات شأن، وما هذا إلا من خلل في الميزان.
فليصحح كل محتسب ميزانه، وليعلم أن الاعتداء على حقوق العباد أدعى للحسبة من الاعتداء على حقوق الله. قال سفيان الثوري: “لأن تلقى الله بسبعين ذنباً فيما بينك وبينه أهون عليك من أن تلقاه بذنب واحد فيما بينك وبين العباد”. وقد اتفق العلماء على أن مَن اعتدى على حق من حقوق الله فإن توبته تكون بالإقلاع عنه والندم على فعله والعزم على عدم العودة إليه، أما من اعتدى على حق من حقوق العباد -من ظلم أو غيبة أو غصب أو أكل مال بالباطل- فلا تصحّ توبته إلا برد الحقّ إلى صاحبه. ذلك أن حقوق الله مَبنيّة على المسامحة وحقوق العباد مَبنيّة على المشاحّة، أي أن الله غفور رحيم ومن مقتضى رحمته أن يسامح عبده إذا حَسُنت توبته، أما العبد فإنه شحيح بعيد عن المسامحة ما لم يسترجع حقّه.
أخرج مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أتدرون ما المفلس؟ قالوا: المفلس فينا مَن لا درهمَ له ولا متاع. قال: “المفلس مِن أمتي مَن يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا، فيُعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإنْ فَنِيَتْ حسناتُه قبل أن يُقضى ما عليه أُخِذ من خطاياهم فطُرحت عليه ثم طُرح في النار”.