انتبهت ذات يوم وأنا أقود سيارتي إلى واحدة من القواعد النفسية والأخلاقية العامة التي يشترك فيها أكثر الناس: إذا حجزتني سيارة بطيئة أمامي قلت: يا لهذا السائق البليد! وإذا تجاوزتني سيارة مسرعة من ورائي قلت: يا له من سائق متهور!
إننا نعتبر أنفسنا “النموذج” الذي يُقاس عليه سائر الناس، فمن زاد علينا فهو من أهل الإفراط ومن نقص عنا فهو من أهل التفريط. إذا وجدتَ من ينفق إنفاقك فهو معتدل كريم، فإذا زاد فهو مسرف وإذا نقص فهو بخيل، ومَن يملك جرأتك في مواقف الخطر فهو عاقل شجاع، فإذا زاد فهو متهور وإذا نقص فهو جبان. ولا نكتفي بهذا المنهج في حكمنا على أمور الدنيا بل نوسعه حتى يشمل أمور الدين، فمَن عبد عبادتنا فهو من أهل التقوى والإيمان، ومن كان دونها فهو مقصر، ومن زاد عليها فهو من المتنطّعين.
وبما أننا جميعاً نرتفع وننخفض ونتقدم ونتأخر ونتغير بين وقت ووقت وبين عمر وعمر فإن هذا المقياس يتغير باستمرار. ربما مَرّ علينا زمان نصلي فيه الصلاة مع الجماعة ثم نقوم فنمشي دون أن نصلي السنّة، فنحس -في قرارة أنفسنا- بالأسف على مَن يفوّت الجماعة ونراه مقصراً، لكننا لا نرى أي بأس في الذين يقتصرون على الرواتب دون النوافل. فإذا تفضّل الله علينا وصرنا من المتنفّلين نسينا أننا لم نكن منهم ونظرنا إلى من لا يتنفّلون بعين التعالي والزِّراية أو بعين الشفقة والرثاء.
نصل من تلك الملاحظة إلى قاعدة مهمة من قواعد الحسبة: إياك أن تظن أن مقياس الصواب في الدنيا ومقياس الصلاح في الدين هو الحالة التي أنت عليها والتي أنت راض عنها، فرُبّ وقت مضى رضيتَ فيه من نفسك ما لا ترضاه اليوم من غيرك من الناس. لا تنظر إلى نفسك إذا نصحت وأمرت ونهيت، بل انظر إلى الحق المطلق والصواب المطلق، انظر إلى أصل الدين المتين.
لعلك رضيتَ من نفسك ذات يوم أن تلتزم بالفرائض وتنتهي عن المحرمات فحسب، فمن وجدته كذلك فلا تُثقل عليه، لا تفرض عليه ما هو مندوب ولا تحرّم عليه ما هو مكروه من الأعمال. لا تكن أغيرَ على دين الله من الله، فقد قبل الله من الناس العمل على قدر الوسع والهمّة ورضي منهم بما افترضه عليهم بلا تطوع، ولو شاء لألزمهم بما يشاء من النوافل والزيادات.
أخرج البخاري عن طلحة بن عبيد الله أن أعرابياً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثائرَ الرأس فقال: يا رسول الله، أخبرني ماذا فرض الله عليّ من الصلاة؟ فقال: الصلوات الخمس، إلا أنْ تَطّوّع شيئاً. فقال: أخبرني ما فرض الله عليّ من الصيام؟ قال: شهر رمضان، إلا أن تطّوّع شيئاً. فقال: أخبرني بما فرض الله عليّ من الزكاة؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم شرائع الإسلام. قال: والذي أكرمك لا أتطوع شيئاً ولا أنقص ممّا فرض الله عليّ شيئاً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أفلح إن صدق”. أو: “دخل الجنة إن صدق”.
هل يعني هذا أن نزهد في الخير ولا نبالي بتحسين تديّن الناس ودفعهم إلى الفضائل والمكرمات؟ لا، ولو فعلنا إنّا إذن مقصّرون بحق الإسلام وبحق المسلمين. تقول: وكيف تجمع بين هذا الكلام وما سبقه من كلام؟ الجواب هو جوهر الموضوع الذي نتكلم فيه والذي أنشأت هذه الأحاديث من أجله: إن الحسبة هي الأمر والنهي، والأمر لا يكون إلا بمعروف واجب والنهي لا يكون إلا عن منكَر محرَّم، أما إصلاح النفوس وتحسين الأخلاق ورفع سويّة التدين في حياة الناس فمحله الدعوة، والدعوة ليس فيها أمر ونهي إنما تقوم على الترغيب والإقناع، وهذا هو موضوع الحديث القادم إن شاء الله.