قلت في آخر الحلقة الماضية: “إن الحسبة أمر ونهي، والأمر لا يكون إلا بمعروف واجب والنهي لا يكون إلا عن منكَر محرَّم، أما إصلاح النفوس وتحسين الأخلاق ورفع سويّة التدين في حياة الناس فمحله الدعوة”. ربما قرأ تلك الكلمات بعضُ الناس فقالوا: لكن الدعوة نفسها عمل من أعمال الحسبة. أليس المسلم يدعو أخاه إلى النوافل والفضائل وهو يحتسب دعوته ويرجو الأجرَ عليها من الله؟
بلى. فمن أين يأتي الفرق بين الحالتين؟
الفرق بينهما يأتي من معنى “الأمر”. صحيحٌ أن على كل مسلم أن “يأمر” بالمعروف، ولكن المقصود بالأمر هنا ليس ما يتبادر إلى الأذهان بداهةً من أنه “الطلب الجازم المُلزِم” مطلقاً وفي كل وقت، بل هو يتفاوت بين حال وحال، فإن ممّا قرره الأصوليون أن الأمر يفيد الوجوب في الأصل، إلا أنه يخرج عنه إلى الندب أو الإباحة إذا اقترن بقرينة. ويقول البلاغيون إن فعل الأمر يأتي بمعنى الأمر المباشر الذي يتضمن معنى الإلزام والاستعلاء، ويأتي بمعان مجازية يفسّرها السياق، فإذا كان من الأدنى إلى الأعلى كان بمعنى الطلب أو الرجاء، وإذا كان من المخلوق إلى الخالق فهو دعاء، وقد يأتي بمعنى الندب والحضّ والتمني والإخبار، إلى غير ذلك من المعاني التي تجدونها في دروس البلاغة.
فما كان من المعروف “واجباً” ومن المنكر “محرَّماً” فإن الحسبة فيه قائمة على الأمر الحازم والنهي الجازم. يدخل في ذلك ما هو واجب من العبادات (أي فرض، وهما واحد عند الجمهور غير الأحناف) كالصلوات الخمس وصيام رمضان، ومن المعاملات والأخلاق، كصلة الرحم وبرّ الوالدين والصدق والأمانة والعدل والوفاء. ويدخل فيه ما هو منكر محرَّم كالربا وشرب الخمر وتعاطي المخدرات، والكذب والغيبة والظلم والخيانة والسرقة والغش والاحتكار.
لكن المعروف ليس الواجب فحسب، فكل ما استحسنه الشرع ولو على سبيل الندب فهو معروف، والمنكر ليس المحرَّم فحسب، فكل ما استقبحه الشرع ولو على سبيل الكراهة فهو منكَر. من المعروف التطوع بالنوافل من صلاة وصيام، والصدقة والذكر والدعاء وقراءة القرآن، والصبر والزهد والكرم والحياء. ومن المنكر البخل والغضب وبذاءة اللسان، والتبول من قيام والتشاغل بالكلام عند تلاوة القرآن وتكفين النساء في الحرير وارتفاع الإمام عن المأمومين لغير حاجة والتفريج الفاحش بين الأقدام في الصلاة (وهو أمر يصنعه كثير من العوام من أجل رصّ المناكب والأقدام، فيقعون في المكروه من حيث يريدون تطبيق السنّة).
كل ما كان من هذا الباب -من الأمور الحسنة المندوبة أو من الأمور القبيحة المذمومة- يعالَج بالدعوة والنصيحة والترغيب، فلا محل للإنكار “الجازم” على مَن لا يصلي سنة المغرب والعشاء ولا يصلي التهجد والتراويح، ولا على مَن لا يصوم الإثنين والخميس ويوم عرفة ويوم عاشوراء، ولا على من يقتصر على زكاة المال فلا يتصدق فوقها بشيء، ولا على من يفرّط في الأذكار ويقصّر في تلاوة القرآن، ولا على من ينام على شقه الأيسر أو يمد يده إلى أقصى الطبق أو يستدبر القبلة في قضاء الحاجة.
هذه كلها مندوبات لم يفترضها الله على عباده (ولو شاء لفعل) أو مكروهات لم يحرّمها عليهم (ولو شاء لفعل)، فلا ينبغي لعبد الله أن يكون أغيرَ على دين الله من الله، ولا ينبغي له أن يأمر فيها وفي أمثالها أمرَ الضغط والإلزام ولا ينهى نهيَ الاستنكار والاستكبار كما يصنع في الفرائض والواجبات، إنما يحثّ المسلمُ نفسَه وإخوانَه على الإقبال على الطيّب منها والانصراف عن القبيح، وينصح ويرغّب ويحبّب حتى يكون المرء من تلقاء نفسه هو المبادر وهو المنتهي. ولا يُكره عليها الوالدُ ولدَه ولا المربّي تلميذَه ولا الأخ أخاه، إنما هو يرغّبه فيها ويذكّره بثواب الله -إذا فعلها- ورضاه، دون أن يلومه أو يُشعره بالذنب إذا لم يفعلها أو يوقع عليه العقاب.