بقلم: د. بلال مصطفى علوان
طبيب القصير قاسم الزين يروي تفاصيل “رحلة الموت والألم” للنزوح من المدينة قائلاً: “هاجمونا بالدبابات والمدفعية والرصاص وتفرَّق الناس وسقط الجرحى من فوق الأكتاف ؟!!”. صرخ الناس (الموت ولا المذلة) هاجموا الكمين بصدور عارية وأسلحة خفيفة فأحرقوا الدبابة ودحروا الحاجز والكمين وأكملنا الرحلة “.
يقول ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد: “كان النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم يُبايعُ أصحَابَه في الحربِ على ألا يَفِرُّوا، وربَّما بايعهم على الموتِ، وبايعهم على الجهادِ كما بايعهم على الإسلام، وبايعهم على الهِجرةِ قبل الفتح، وبايَعَهُم على التوحيد، والتزامِ طاعةِ الله ورسوله، وبايع نفراً من أصحابه ألا يسألوا الناس شيئاً”.
والبيعة على الموت من الأمور المشروعة, وقد ذكر ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية (7/11-12) قصة عكرمة بن أبي جهل يوم اليرموك فقال: “قال عكرمة بن أبي جهل يوم اليرموك: قاتلتُ رسولَ الله صلّى الله عليه وسلّم في مواطن وأفر منكم اليوم؟ ثم نادى: من يبايع على الموت؟ فبايع عَمُّه الحارث بن هشام، وضرار بن الأزور في أربعمائة من وجوه المسلمين وفرسانهم، فقاتلوا قُدَّام فسطاط خالد حتى أُثبتوا جميعا جراحا، وقُتِل منهم خَلْقٌ منهم ضرار بن الأزور , وقد ذكر الواقدي وغيره أنهم لما صرعوا من الجراح استسقوا ماء فجيء إليهم بشربة ماء فلما قربت إلى أحدهم نظر إليه الآخر فقال: ادفعها إليه، فلما دفعت إليه نظر إليه الآخر فقال: ادفعها إليه، فتدافعوها كلهم من واحد إلى واحد حتى ماتوا جميعا, ولم يشربها أحد منهم ، رضي الله عنهم جميعا”.
ويؤخذ من هذه القصة مشروعية البيعة على الموت, فقد عُقدت هذه البيعة على مرأى ومسمع أكثر من ألفٍ من الصحابة, بينهم مائة من أهل بدر, وقائد الجيش يومئذ خالد بن الوليد ولم يُنكر أحدٌ منهم على عكرمة بل أقروه على فعله.
يقول ابن كثير رحمه الله: ” قال سيف بن عمر بإسناده عن شيوخه: “إنهم قالوا كان في ذلك الجمع – جيش المسلمين باليرموك – ألف رجل من الصحابة منهم مائة من أهل بدر”.
إمام المجاهدين بايع أصحابه على الموت وعلى عدم الفرار من أجل رجل واحد – عثمان بن عفان – رضي الله عنه …
في بيعة العقبة الثانية، وهى بيعة العقبة الكبرى, قال عبد الله بن رواحة للـنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم : اشـترط لربك ولنفسك ما شئت. فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم : “أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأشترط لنفسي, أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم”. قالوا: فإذا فعلنا ذلك فما لنا ؟ قال صلّى الله عليه وسلّم : (الجنة), قالوا: ربح البيع ، لا نقيل ولا نستقيل، فنزلت الآية {إن الله اشترى من المؤمنين …}, فقال أنصاري : بيع رابح لا نقيل ولا نستقيل.
قال الحسن البصري رحمه الله تعالى : اسمعوا والله بيعةٌ رابحة وكفةٌ راجحة ، بايعَ اللهُ بها كلَّ مؤمن ، والله ما على الأرض مؤمنٌ إلا وقد دخل في هذه البيعة.
وعلق الشهيد سيد قطب رحمه الله تعالى على هذه الآية فقال: “إنّه نص رهيب! إنّه يكشف عن حقيقة العلاقة التي تربط المؤمنين بالله؛ وعن حقيقة البيعة التي أعطوها – بإسلامهم – طوال الحياة , فمن بايع هذه البيعة ووفَّى بها فهو المؤمن الحق الذي ينطبق عليه وصف (المؤمن) وتتمثل فيه حقيقة الإيمان, وإلا فهي دعوى تحتاج إلى التصديق والتحقيق! .. إنها لبيعة رهيبة .. عونك اللهم! فإنّ العقد رهيب لقد كانت هذه الكلمات تطرق قلوب مستمعيها الأولين على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فتتحول من فورها في القلوب المؤمنة إلى واقع من واقع حياتهم ؛ ولم تكن مجرد معان يتملونها بأذهانهم، أو يحسونها مجردة في مشاعرهم , كانوا يتلقونها للعمل المباشر بها , لتحويلها إلى حركة منظورة، لا إلى صورة متأملة هكذا أدركها عبد الله بن رواحة في بيعة العقبة الثانية
أيها المجاهدون اليوم: نفوسكم ليست ملكاً لكم ومع هذا فقد اشتراها الله منكم. وإن مهمتكم وإيمانكم وعزتكم لا تكمل بغير إنفاذ هذا البيع وتسليم الأمانة مهما حاولتم , وإنّ الأمانة ستسلم طوعاً أو كرهاً (أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ), ولن يمنعها القعود من القتل إنْ كُتب عليها ، ولن يَحْدُوها الإقدام إليه إن منحها الله إيّاه ، ففيم التواني (بايعوا على الموت).