في الوقت الذي تحتدم المعارك اليوم بين الإسلام والكفر، بين العدل والظلم على أرض سورية، وفي أقطارٍ إسلامية أخرى، يجدر بنا أن نقرأ في التاريخ عن معارك مشابهة، تجمّع فيها الكفار من كل حدب وصوب ليقضوا على الإسلام وأهله، فكان أن ثبت المؤمنون وقدموا أرواحهم فداءً لهذا الدين، ورفعاً للظلم عن المستضعفين من الرجال والنساء والولدان حتى قضى الله بأن ينصر عباده، ويدحر أعداءه.
ما كاد المسلمون يصدّون الزحف الصليبي وينتصرون عليه في معركة حطين، حتى بدأت موجة التتار تهدد ولايات الدولة الإسلامية، بل تجتاحها بوحشية لا مثيل لها، فدبّ الرعب في القلوب، وكان الخوف يسبق الجيوش، فتستسلم النفوس وتخضع من غير مقاومة!.
بدأ التتار زحفهم بقيادة ملكهم هولاكو بن طولوي بن جنكيز خان، على شرق الدولة الإسلامية في بلاد تركستان وفارس وسمرقند وقزوين ونيسابور يقتُلون ويدمّرون، حتى دخل في روع الناس أن التتار قوة لا تُغْلَب، ولا قِبَل لأحد بها. وقد قتلوا في مدينة الري وحدها أكثر من سبعمئة ألف مسلم!.
وفي عاصمة دولة الخلافة بغداد، كان الخليفة المستعصم بالله قد اتخذ ابن العلقمي الرافضي وزيراً، وتواطأ هذا الوزير مع هولاكو فهيأ الأجواء لتسهيل مهمة احتلال بغداد، وسرّح أعداداً هائلة من الجيش وهكذا تمكّن هولاكو من إسقاط بغداد في شهر صفر من سنة 656هـ (1258م)، وقَتَلَ الخليفةَ وأهل الحل والعقد والعلماء، واستباح المدينة أربعين يوماً، وقتل ما لا يقل عن مليون مسلم، فضلاً عن تدمير المساجد والبيوت وإحراق الكتب ورميها في نهر دجلة!.
وفعل مثل ذلك في الرها وديار بكر سنة 657هـ، وفي حلب سنة 658هـ. وحين توجّه إلى دمشق، وسمع سلطانُها بقدومه ولّى هارباً، فخرج أهلها وفاوضوا هولاكو على الاستسلام، مقابل إعطائهم الأمان، ولكن متى كان للكافر عهد وأمان؟! لقد دخل التتار دمشق، وارتكبوا فيها أفظع الجرائم قتلاً وبطشاً وسلباً ودماراً.
وتابع الجيش المتوحش زحفه على نابلس والكرك وبيت المقدس وغزة وهو يمارس جرائمه حيثما حلّ: يذبح وينتهك الحرمات.
وكلما دخلوا بلداً جديداً زادت نشوتهم وامتلأت رؤوسهم بالغرور، بمقابل الشعور بالهزيمة النفسية التي تمهد للهزيمة العسكرية بل الاستسلام، لدى شعوب تلك البلدان.
وكانت زوجة هولاكو نصرانية، وكان أشهر قادته (كتبغا) نصرانياً كذلك، وكان ملك فرنسا لويس التاسع قد عرض على التتار عقْد حلفٍ معهم ضد المسلمين. ولقد حقق هولاكو للصليبيين ما عجزوا عن تحقيقه.
وبعث هولاكو برسالة إلى ملك مصر المظفر سيف الدين قطز مع أربعين رجلاً من قادته ومستشاريه وجواسيسه ليعرفوا مداخل المدينة وحصونها واستحكاماتها. وكانت رسالته تنضح بالغرور والجهل والاستكبار، ويصف نفسه بأنه ملك الملوك والقائد الأعظم، ثم يقول:
“يَعْلَمُ الملك المظفر قطز وسائر أمراء دولته أننا نحن جند الله في أرضه (!!!)، خَلَقَنا من سخطه، وسلّطنا على من حلّ به غضبُه، فَلَكُمْ فيما جرى مع غيركم من البلاد مُعْتَبَر، ومن عزمنا مزدَجَر، وقد سمعتم أننا قد فتحنا البلاد، وطهّرنا الأرض من الفساد (!!) وقتلنا معظم العباد، فعليكم بالهرب، وعلينا الطلَب. فأيُّ أرض تؤويكم، وأيّ طريق تنجيكم؟ فما لكم من سيوفنا خلاص، فخيولنا سوابق، وسهامنا خوارق، وسيوفنا صواعق، وقلوبنا كالجبال، وعددنا كالرمال”.
لقد كانت هذه الرسالة تحدّياً لآخر قيادة إسلامية. وكان المنطق الماديّ يحتّم الاستسلام، لكن المنطق الإيماني شيء آخر، إنه يجعل المؤمن يلجأ إلى بارئه، ويضع روحه على راحته، ويُقْبِل إلى الله ناشداً إحدى الحسنيين، والله تعالى ينصر من ينصره، ويهيئ له من أمره فرجاً ومخرجاً.
قرأ قطز الرسالة، واستشار أمراءه فأشاروا عليه بالاستسلام، إلا الظاهر بيبرس فقد كان على رأي قطز: قتالٌ فنصر عزيز، أو ميتة شريفة تحت ظلال السيوف!.
ويبدو أن عدداً من الأمراء رجعوا إلى رأي الملك المظفر وأشاروا أن يكون الرد بقتل رسل هولاكو، فقتلهم إلا واحداً تركه يعود إلى هولاكو فيبلغه ما رأى!.
ثم جمع الملك المظفر الأمراء والعلماء وكبار رجال الدولة، مرة أخرى، وحضر اللقاءَ العالمُ المجاهد العز بن عبد السلام حيث أفتى بوجوب التأهب لملاقاة التتار، وأجاز للملك قطز أن يأخذ من أموال الرعية، مايستعين به على الجهاد بعد أن يستنفد أموال الخزينة، وبعد أن يبيع الأمراءُ ما يملكون من النفائس… ووقف قطز فقال في آخر اللقاء: الرأي عندي أن نتوجه إلى القتال، فإذا ظفرنا فهو المراد، وإلا فلن نكون مستسلمين أمام العدو.
ووصل الخبر إلى التتار فأيقنوا أن الحرب قادمة فبدؤوا يعدون العدة.
وبالمقابل فإن الملك المظفر بدأ يحشد قواته. ففي 15 من شعبان 658هـ (1260م)، خرج من قلعة الجبل في القاهرة على رأس جيشه، وانضم إليه الجنود الشاميّون الفارّون من الغزو التتاري… وتتابع الحشد حتى تكامل في معسكر الصالحية في شرق الدلتا.
وخطب قطز في الجيش، وحرضهم على القتال ثم قال: ” وإني متوجه لملاقاة الأعداء، فمن اختار منكم الجهاد فليصْحَبْني، ومن لم يَخْتَر ذلك فليرجع إلى بيته واعلموا أن خطيئة حريم المسلمين في رقاب المتأخرين منكم”.
وصارح جنوده بأنهم سيواجِهون عدواً جباراً متغطرساً، وحثهم على بذل أرواحهم في سبيل الله، وأجهش بالبكاء فأقسموا أن يقاتلوا حتى ينتصروا أو يُستَشْهدوا.
ورأى قطز أن يخرج لملاقاة التتار مؤكداً أن أفضل طريقة للدفاع هي الهجوم.
وانطلق الجيش في مطلع رمضان المبارك، وتوجه نحو غزة، فبعث القائدُ التتري (بيدر) إلى (كتبغا) خليفة هولاكو في قيادة الجيوش ليطلب منه النجدة. لكن قطز كان أسرع من النجدة فباغت (بيدر) وانتصر عليه، وحرر غزة من التتار، فارتفعت معنويات المسلمين، ثم بعث قطز قائدَه بيبرس في سرية لمناوشة التتار والحصول على معلومات عن جيوشهم. فالتقى بيبرس التتار في مكان بين بيسان ونابلس يسمى عين جالوت، وكانت هناك جحافل التتار بقيادة كتبغا الذي جاء مسرعاً من سهل البقاع في لبنان.
وفي 25 من رمضان 658هـ (6/9/1260م) نشب القتال بين الجيشين، وكان التتار يحتلون مرتفعات عين جالوت. وطبق كتبغا أسلوب قائده هولاكو فقام بهجوم صاعق من الفرسان، واحتدم القتال، وتطايرت الرؤوس وتغلغل التتار داخل الجيوش الإسلامية لكن قطز سرعان ما استعاد جأشه، فحمل بنفسه على التتار، واستعادت ميسرة الجيش المسلم مواقعها، وردت التتار على أعقابهم، واستمر قطز في الهجوم بقوات “القلب” من المجاهدين المتطوعين، وليس من الجنود النظاميين. أما الجيش النظامي فقد أخفاه قطز في شعاب التلال المجاورة ثم أطلق قطز نداءً متفقاً عليه: “واإسلاماه، يا الله انصُر عبدك قطز على التتار” فانهمرت الجيوش النظامية على التتار وبدؤوا يولّون الأدبار، حتى تمكن المسلمون من قطع رأس كتبغا، وفرّ التتار إلى مزرعة للقصب، فلحق بهم قطز، وأضرم النيران في المزرعة فاحترق منهم من احترق، واستسلم من استسلم، وما أن انتهت معركة عين جالوت بالنصر المبين، حتى سارع المسلمون يتتبعون فلول التتار، ووصلوا دمشق فدخلها قطز في أواخر رمضان، واستعادها من التتار، وعادت إليها تكبيرات الأذان، ثم يمم شطر حلب، فهرب التتار قبل وصوله وتركوا ما بإيديهم من أسرى المسلمين.
وتطهرت بلاد الشام من ملوك التتار، وعاد قطز إلى مصر.
رحم الله الملك المظفر قطز. وهيأ الله لبلاد المسلمين من يطهرها من كل رجس. وما ذلك على الله بعزيز.