ينبغي على من يتصدرون للاحتساب ودعوة الناس إلى الطاعة ونهيهم عن المعصية أن يميزوا بين حالتين: حالة ارتكاب المحرمات وعدم الالتزام بالفرائض، وحالة إشهار المخالفة والتفاخر بها.
في الحالة الأولى نجد أن الإسلام لا يتعقب المقصّر أو المذنب ولا يتتبع عورته ولا يعاقبه على تقصيره وذنبه عقوبةً دنيوية، فإذا ترك الصلاةَ ولم يُشعِر أحداً بأنه لم يعد يصلي لم يُستخرَج من بيته للصلاة، وقد ذكر النبي عليه الصلاة والسلام المتخلفين عن الجماعة فقال: “لقد هممتُ أن آمُرَ بحطب يُحتطب ثم آمر بالصلاة فيؤذّن لها، ثم آمُر رجلاً فيؤمّ الناس، ثم أخالفَ إلى رجال فأحرقَ عليهم بيوتهم”، ولو أراد لفعل، فدلّ الحديث على الوعيد ولم يدل على الإلزام.
ولو أغلق رجلٌ عليه بابَ بيته فشرب الخمر لم يَجُز لوليّ الأمر أن يتجسس وأن يتعقبه حتى يكشف خبره ويعاقبه. رُوي النهي عن تسوّر الجدران على من اجتمعوا على منكر عن سفيان الثوري وغيره من أهل العلم، وعن أحمد: “أما التفتيش عمّا استراب به فلا يحل”. واستثنى القاضي أبو يعلى المنكر الذي فيه انتهاك حرمة يفوت استدراكها كالقتل، فله التجسس والبحث والإقدام إن أخبره ثقةٌ حَذَراً من فوات ما لا يُستدرَك، وإن كان دون ذلك في الرتبة لم يجز التجسس عليه ولا الكشف عنه؛ قال إمام الحرمين: “وليس للآمر بالمعروف البحثُ والتنقير والتجسس واقتحام الدور بالظنون”.
وتروى عن عمر في هذا الباب قصة لم تصح، تزعم أنه تسور على قوم يشربون الخمر، وأصحّ منها القصة التي رواها الزهري بسنده عن عبد الرحمن بن عوف أنه حرس ليلة مع عمر في المدينة، فبينما هم يمشون شَبّ لهم سراجٌ في بيت، فانطلقوا يؤمّونه، حتى إذا دنَوا منه إذا بابٌ مُجَاف (أي مَرْدود) على قوم لهم أصوات مرتفعة. فأخذ عمر بيد عبد الرحمن وقال: أتدري بيتُ من هذا؟ قال: لا. قال: هذا بيت ربيعة بن أمية بن خلف، وهم الآن شَرْب (أي مجتمعون على الشراب) فما ترى؟ فقال عبد الرحمن: أرى أنّا قد أتينا ما نهى الله عنه؛ نهانا الله عز وجلّ فقال: {و لا تجسّسوا}، وقد تجسسنا. فتركهم عمر وانصرف عنهم. الحديث أخرجه الحاكم في المستدرك وصححه الذهبي.
وقال القرطبي في تفسير قوله تعالى {ولا تجسّسوا}: خذوا ما ظهر ولا تتبعوا عورات المسلمين، أي لا يبحث أحدكم عن عيب أخيه حتى يطّلع عليه بعد أن ستره الله. وفي سنن أبى داود عن معاوية قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت تفسدهم”، قال أبو الدرداء: كلمة سمعها معاوية من رسول الله صلى الله عليه وسلم نفعه الله تعالى بها. وعن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهم”.
ما سبق كله داخل في الحالة الأولى، وهي حالة المقصّر والعاصي المستتر، أما المباهاة بالمعاصي وإشهارها فإنه عمل ممنوع ويعاقَب فاعله لأنه يشجع على مخالفة القانون (أي قانون الإسلام)، والمجاهرة بمخالفة القانون وتشجيع الآخرين على المخالفة جريمة تستحق العقاب، وفيها نزل قوله تبارك وتعالى: {إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة} ومن هذا الباب إقامة الحدود على من جاهر بالزنا وشرب الخمر وغير ذلك من الذنوب.