بقلم: حمود الشيخ كياري
من النادر في تاريخ الثورات أن تستطيع ثورة الانتصار وتحقق أهدافها من أول نهوض أو قيامة، فأغلب الثورات انتكست في المرحلة الاولى، وكثير من تلك الثورات انتظرت عشر سنوات أو أكثر لتستطيع إعادة لملمة نفسها. وأغلب الأنظمة التي تحصل ضدها الثورات تنهار بعد زمن ليس ببعيد، المهم في الأمر أن الثورات الأولى، في الغالب، تشكل لحظة التأسيس أكثر من كونها الحدث الحاسم.
في التاريخ ثمة أمثلة كثيرة تؤيد هذا الطرح، فقد انتظرت أوروبا الشرقية أكثر من عقدين بعد أن داست الدبابات السوفييتية ربيع براغ، وسقط ربيع الشعوب الأوروبية 1848 في مجمل الدول والممالك الأوروبية. أما الثورة الفرنسية، وهي المثال الأبرز، فقد تناسلت أكثر من ثورة وعلى مدار مساحة من الزمن تقارب القرن.
لكن لماذا لا تنجح الثورات في مرحلتها الأولى رغم اندفاعها وزخمها، ورغم أن الخسائر الكبرى للشعوب تحصل في هذه المرحلة بالتحديد؟ ثمة عوامل يمكن من خلالها تفسير هذه الحالة:
– لأن الثورة تحصل في ظل بيئة شكّلها نظام الحكم (الذي تحصل الثورة ضده)، هذه البيئة تكون مصمّمة بدرجة كبيرة لحماية النظام وخدمته أمنياً، وتتشكل هذه البيئة من الدولة العميقة (جيش وأمن وموظفين) وشبكات المستفيدين من الفساد، بالاضافة للانتهازيين والخائفين من الطروحات الجديدة، والفئات التي تلوعت من ظلم النظام وتخافه ولا تستطيع كسر حاجز الخوف.
– لأن الأنظمة تحسن استخدام مواردها أكثر، وهي أفضل تنظيما وقدرة على إدارة الصراع، ولأنها تضم اتحاد قوى تقاتل قتال حياة أو موت لانعدام الخيارات أمامها، ولأن الشعب. ورغم أن كتلته أضخم، إلا أنه أقل تماسكا ومشتت بين ولاءات عديدة.
– لأن النظام تكون له شبكة تحالفات إقليمية ودولية قادرة على حمايته، ويحصل ذلك نتيجة خوف حلفائه الإقليميين والدوليين من حصول تغييرات تؤثر على مصالحهم في هذا البلد، وأحيانا كثيرة بسبب الرغبة في عدم وصول الثورة إليهم.
لكن تأثيرات الثورات لا تنتهي لحظة القضاء على مظاهرها وفعالياتها، بل على العكس، في مرحلة اشتعال الثورات، ورغم المخاطر التي تحملها على النظام الحاكم، يكون هذا النظام في مرحلة ربيعه، نتيجة توحد شبكات القوى الداخلية والخارجية لحمايته، كما أن روايته عن المؤامرة والاستهداف من قبل الأعداء تكون مقدسة لدى أنصاره وحلفائه، ولا يحتاج لعناء كبير لدفعهم للاستقطاب حوله والتضحية من أجله، فهم بحاجة لأي رواية تساعدهم، مهما كانت متهافتة وغير متماسكة، لتحفيزهم على الاستماتة في الدفاع عن مصالحهم التي تغدو في عين العاصفة.
ما الذي يحصل بعد ذلك وتتغير المعادلات، وأحيانا بسرعة غير متوقعة؟ يعرف الذين قرأوا التغيرات الكبرى التي حصلت على مستوى العالم، أن النتائج غير المقصودة عادة ما تحكمت بمسار الأحداث أكثر من قدرة الاستراتيجية والتخطيط، وغالباً ما تجد الأطراف نفسها أمام وقائع لا تملك أمامها خيارات مهمة، فتذهب بالاتجاه الذي أرادته الثورة وطالبت به، بمعنى تصبح القوى التي قاتلت الثورة هي نفسها التي تحقّق أهداف الثورة وإن بغير قصد منها، كيف؟
– في المرحلة التي يستأسد نظام الحكم في قمع الثورة يتحول إلى طبقات، حيث تنحصر السلطة والقوة بيد نواة صغيرة منه، في حين يقف الآخرون على الهامش، وإذا كانوا يقبلون بهذه الوضعية بداية، فإن اعتقادهم بأن انتصار النظام كان بسببهم يدفعهم إلى رفع سقف طموحاتهم والمطالبة بالحصول على حصة أكبر في السلطة، كما أن هالة النظام ورأسه الحاكم تسقط في عيونهم، ويجدون أن لا شيء يميز الحاكم والنواة المقربة منه ليحتكروا السلطة. وبما أن المناصب والموارد أقل من الحجم المطلوب، يبدأ الصراع داخل أجنحة النظام ومكوناته ومؤيديه، وينتهي غالباً بتفكك النخبة وضعفها، عندها ستخرج مجموعة وتعلن أنه باسم الشعب جرى الانقلاب على النظام السابق.
– وفي المرحلة التي تعقب سحق الثورة، يكتشف الداعمون، ماليا وسياسياً، أنهم تورطوا بمسألة أكبر من طاقاتهم، وأن هذا النظام الذي انقذوه يستنزفهم، وبما أن هؤلاء باتوا يعرفون مراكز القوى ولديهم ارتباطات كبيرة مع القوى المحلية المختلفة، فإنهم يبدأون بالبحث عن بدائل تخفف درجة استنزافهم، وعن وجوه جديدة أقل تلوثا من القديمة التي يصعب تسويقها، وتكون الثقة في قدرتها على السيطرة وضبط الأمور منعدمة.
– والسبب الأهم، أن تلك النخب غالبا ما ترتكب من الهفوات والأخطاء ما يؤدي إلى سقوطها، فهي متوتّرة ومرتبكة وفاقدة للثقة بالجميع من حولها، حتى حلفائها المقربون، كما أن مرحلة سحق الثورة علمتها منطق الاستسهال.
الثورات الأولى لا تنتصر غالباً، لكنها تؤسس للتغيير العميق، كما أن الشعوب تزداد خبرة ووعيا نتيجة الكارثة التي تحدثها الثورات المضادة، وتستبدل حماستها الزائدة بالعمل الهادئ والمنتج، كما أن الجيل الثاني للثورة يكون أقدر على الإدارة والتصرف وكيفية الوصول للأهداف مباشرة.