التواضع العجيب

قد يخدع الإنسانُ نفسَه عن حقيقة نفسه وهو لا يشعر!. هذا الخداع الذي يدخُل في باب “الحيل النفسية” التي يهرب بها الإنسان عن واقع دوافعه وخبايا نفسه، من حيث لا يدري.

ولكن، إذا كان يفعل ذلك وهو لا يشعر ولا يدري، فهل هو مسؤول عن هذا الخداع؟ وهل من طريقة ليكتشف حقيقة هذا الخداع؟

كثير من الناس من يعجِز عن مصارحة نفسه، واكتشاف ذاته، والاعترافِ – من ثَمَّ – بأنه مخطئ أو آثم، لا سيما في الأمور الباطنة كالنوايا والدوافع.

الأصل في الإنسان أن تكون مواقفه العملية، وسلوكه، وأقواله، مترجِمةً عن عقيدته وفكره وتصوراته. فمن آمن باليوم الآخر ظهر ذلك في واقع حياته: حرصاً على ما يؤدي به إلى الجنة، وبعداً عما يؤدي به إلى النار. ومَن علِم أن بعض الجراثيم تسبب الأمراض حرص على النظافة. وهكذا.

فإذا ادّعى إنسان صفة معينة أو خُلقاً أو معرفة، ثم ظهر من تصرفاته ما يخالف دعواه، كان ذلك أمارة على تناقضٍ يحتاج إلى حلّ.

وأول ما يتبادر إلى الذهن في حل هذا التناقض أن يقال: إنه كاذب في ادّعائه، يريد أن يروّج بضاعته على الناس، ويخدعهم عن حقيقة حاله. وهذا ما ينطبق فعلاً على بعض الناس. لكن هؤلاء الذين تنطبق عليهم انطباقاً ظاهراً تقوم أعمالهم شاهدة على كذبهم، بحيث لا ينخدع بهم إلا البعيد عنهم، أو الساذج. فالزعيم السياسي الذي يتمسح بالإسلام في بعض المواقف، ثم تراه يضطهد المسلمين ودعاة الإسلام، ويُقصي الإسلام عن الحياة… لا يكاد ينخدع به عاقل لبيب، والتاجر الذي يحدثك عن الأمانة والاستقامة… ثم تراه يمارس الغش والتدليس وأكل أموال الناس بالباطل، سرعان ما ينكشف أمره بين الناس، فضلاً عن انكشاف أمره أمام نفسه.

لكنّ الأمر لا يكون دائماً بهذه البساطة، بل يدخل أحياناً، طوراً خطيراً في التعقيد، ويصعب فهمه على غير المتعمقين أو المختصين، أو أصحاب الخبرة في تتبع مسارب الأهواء والدوافع في النفوس.

وهنا نقف عند الظاهرة التي أسميناها تواضعاً عجيباً، لنرى كيف يلبّس الشيطان على بعض الناس فيُضِلّهم ويَحرِفهم عن سَنَنِ الحق، ويحسبون أنهم مهتدون.
كثير ممن نعرف منهم الصلاح والعلم والتقى، نرى منهم التواضع الجمّ، وهضمَ النفس، ووصْفها بالدون من الصفات. فقد تصف أحدَهم بما تعرفه عنه من فضائل، فيقول لك: “لا تنخدع بي يا أخي، فأنا العبد الفقير الضعيف المذنب، غفر الله لي، ولولا أن الله تعالى يسترني بستره الجميل لانكشف عُواري للناس، ولما اكترث بي أحد…”.

فإذا اكتشفتَ، بالفعل، خطأ في رأي أو تصرف، صَدَرَ من هذا الفاضل الصالح، وواجهتَه به، وأردتَ نُصحَه وتسديدَه، رأيته ينتفض منتصراً لنفسه، منافِحاً عن خطئه… وقد يتجاوز المعتادَ من الانتصار للنفس، وينتقل إلى مهاجمتك، ووصفك بالجهل والتحامل، وأنك لا تقدر الرجال حق قدرها… ثم يحقد عليك حقداً لا يكاد يرضَى بعده، إلا إذا عرفت كيف تتملّقُه من جديد، وتتعهده بالتبجيل، وتُشعره بفوقيته على مَن حوله من الناس!.

ومثل هذا مَن يُطْلِق النكات عن نفسه بما يصفها بصفات الدون والمهانة… لكنه ينتفض كل الانتفاض، ويغضب كل الغضب لو تجرّأ أحد فوجّه إليه نقداً ما، بجدّ أو هزل!.

هل كان إذاً يكذب حينما يُظهر تواضعَه العجيب؟! ليس من الحكمة أن تسارع فتقولَ: نعم، أو تقول: لا.

مِثل هذا الرجل يَعْلَم من الإسلام أن الغرور والعجب والكِبر آفاتٌ قاتلة. وهو لا يرضى لنفسه واحدة من هذه الصفات الذميمة، بل يحرص على تحاشيها بينه وبين نفسه، فضلاً عن حرصه هذا بينه وبين المسلمين الذين يحتقرون المغرور المتكبر، لكنه في قرارة نفسه يرى أنه متميز من كل الناس: إنه أفضل منهم في كل شيء، علماً ومعرفة، وثقافة وخُلقاً، وذكاءً ورأياً، وفصاحة وتدبيراً، وتُقى وورعاً… بل لعله يعتقد أنه أقواهم بِنْيةً، وأوسمهم طلعة، وأجملهم ثوباً، وآنقهم هنداماً، وأهيبهم سمْتاً…

وصورته هذه عن نفسه، التي انغرست في أعماقه، لا يرضى أن يصارح بها نفسَه، لأنها مرفوضة عنده، مرفوضة في وعيه الذي يؤكد له قبح العجب والكِبر والغرور، ويحبب إليه التواضع وهضم الذات. فهو يُقنع نفسه، في الظاهر، ويقنع غيره كذلك، أنه الضعيف العاجز المذنب… ولعله بهذا الإقناع يرفع من نفسه أمام نفسه وأمام مَن يَعُدُّون التواضع قيمةً عليا، لكنه ما يكاد يُستثار مرة حتى يتحرك ما في أعماقه، وينتصر لنفسه هذا الانتصار البشع.

لقد ظهرت حقيقة هذا الإنسان من خلال تصرفاته القولية، إثْر بعض الاستثارات. وقد تظهر من خلال بعض تصرفات عملية، كأنْ يُعرَض عليه أن يقوم ببعض المهمات، فيُظهر ضعفه وضآلة إمكاناته، ويجعل ذلك عذراً له عن قيامه بها.. ثم نراه لا يفتأ يخرّب ويشكك ويغمز بكل من يندب نفسه للقيام بمثل هذه المهمات، ونرى أعماله تترجم عن ازدرائه لهم، واستعلائه عليهم.

مرةً قال أحد الأصدقاء لبعض من يظهر عليه هذا النوع من “التواضع”: هل تذكر أنه وقع منك خطأٌ مرةً واحدة في حياتك؟! وتعجّب الرجل من السؤال، وارتاب من مراد السائل، لكن السائل لم يدعْه في حيرته، بل أردف يقول: إنك تدعي لنفسك التواضع وهضم النفس والقصورَ عن معارج الفضل في العلم أو التقى، ولكنك في واقع الأمر تُقَوِّمُ نفسك أنك فوق رفقائك وإخوانك، وتنظر إلى من حولك نظرة استعلاء عليهم وتكبر.

إن تصرفات مثل هذا الرجل تُتَرْجِم مرة عن صورة نفسه التي يرسمها لنفسه برضاه وشعوره وإرادته، فيَظْهَرُ منه التواضع، لا سيما أمام من يمتدحه ويعظّمه، وتُتَرْجِم مرةً عن صورة نفسه التي ترسّخت في أعماق نفسه نتيجة تجاربه في طفولته أو صباه أو كهولته، فتظهر في انتصاره لنفسه إذا أهين شخصُه، أو إذا جوبِه بخطأ له في رأي أو سلوك، أو في معصية شرعية، أو إذا لم يراعَ جنابُه في بعض المحافل والمجالس ونحوها.

إنه بحاجة إلى أن يكشف نفسَه لنفسِه، فيكون صادقاً مع نفسه، فهذا بداية العلاج، بل إنه الخطوة العظمى في طريق العلاج.

ويزداد الأمر خطورة إذا كان هذا الرجل يغضب لنفسه حين يُنتَقَص حقّه وحين لا يلقى التعظيم والتكريم.. ولا يغضبُ مثلَ هذا الغضب إذا انتُهكت حرمات الله!.
وقد قيل: لا يغرّنّك من يتواضع بلسانه، وبانحناء ظهره، وانخفاض رأسه، فقد يكون من أشد الناس كِبراً وغروراً. جرّبْه إذا شئت بالمساس قليلاً بكبريائه ينكشف لك أمره في الحال.

وليضعْ كل منا ميزاناً يتبين فيه إذا كان متواضعاً حقاً أو متكبراً. فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول – في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم -: “الكِبْرُ بَطََر الحق وغَمْطُ الناس” فإذا عرف أحدنا من نفسه أنه لا ينقاد إلى الحق بسهولة، بل قد يرفض الإذعان للحق، وأنه ينظر إلى الناس الذين ينقصون عنه في الغنى والدرجة الاجتماعية، نظرة ازدراء، فليعلمْ أن فيه كِبراً، وإن كان يُظهر التواضع في مواقف كثيرة.

هذا الذي ذكرناه عن خُلُقِ التواضع، بين الصورة الظاهرة والحقيقة الباطنة، نجد لها نظائر في أخلاقٍ أخرى كالإخلاص والزهد بالمال والمنصب والشهرة، وحبِّ الخير للآخرين، والتسامحِ والعفو والإيثار.

وإننا بهذا لا نحكم على فرد معين، كما أننا لا نَعُدُّ حكمنا على أي تصرف حكماً نهائياً، فالنفوس البشرية معقّدة الخيوط، متشابكة الخطوط. وإصدار الأحكام العامة المستعجلة لا يخلو من مجازفة قد تكون كبيرة. إنما نذكر ما نذكر ليكون كالمرآة ينظر فيها كل منا ليتعرف على ملامحه العميقة وراء الأقنعة التي يحاول أن يواريَ بها عيوبه. إنها الحاجة إلى المصارحة مع الذات (بل الإنسان على نفسه بصيرة، ولو ألقى معاذيره ).