الهجرة
كلمة أسست أمة
بقلم: السيد العادلي
عندما هاجر “أصيل الغفاري” بضم “الألف” إلى المدينة المنورة سأله الرسول صلي الله عليه وسلم عن مكة، فبدأ أصيل يتحدث عن هواء مكة، وجمال مكة، وزينة مكة، فأسكته الرسول عليه الصلاة والسلام، وقال “ويحك يا أصيل” لا تبكنا، دع القلوب تقر قرارها.
حتى الرسول بكى عندما فارق مكة بل كان يخاطبها ويقول، ما أطيبك من بلد وأحب إلي من نفسي ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما سكنت غيرك.
من زار مكة يعرف أنها عبارة عن أرض صحراء لا تصلح للعيش بوصف القرآن الكريم حينما قال “واد غير ذي زرع” صدق الله العظيم” لكنها كانت للرسول الكريم وطن ولا يعرف الوطن إلا من جرب الغربة.
القرآن جعل ألم فراق الوطن بعد ألم الموت مباشرة “ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو أخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليلا منهم” صدق الله العظيم، حتى في العقوبات السياسية يأتي النفي من الوطن كعقوبة مباشرة بعد الإعدام مثل نابليون بونابرت وعبد الرحمن الداخل والكواكبي وابن خلدون ومحمود سامي البارودي وغيروهم كثيرون، حتى المهاجرين بقي اسمهم مهاجرون رغم قسوة هذه الكلمة.
حتى النبي صلى الله عليه وسلم ظل اسمه النبي المكي القرشي رغم أنه عاش أهم فترة للرسالة المحمدية في المدينة لكنه لم يتنكر لأصله رغم القسوة التي عامله بها الكفار والمشركين، رغم ويلات العذاب الذي تلقاه من المشركين في مكة.
هاجر الرسول لكنه أسس أمة عاد بها إلى مكة، ودخلها برايات بيضاء وخضراء دليل على السلام والحب، رغم أنه كان قادرا على رفع الرايات الحمراء دليل القوة والحرب وحب الدماء.
هاجر الرسول ومعه مسلم واحد فقط، لكنه عاد إلى مكة ومعه 10 ألاف مسلم ومع ذلك لم ينقل الرسول صلى الله عليه وسلم مركز الدولة الإسلامية من المدينة إلى مكة حتى لم يوصي بأن يدفن في مكة أو ينقل جثمانه الشريف من المدينة إلى مكة مسقط رأسه.
هاجر الرسول ليعلمنا أن الأهداف تبقى ثابتة، رغم قسوة الظروف، ليعلمنا أن العمل ليس بالضرورة أن يكون في الوطن، لكن يجب أن نسعى إليه ونصل إلى غايتنا التي تخدم في النهاية ديننا ووطننا.
هاجر الرسول ليعلمنا أن المكاسب في الغربة أكثر بكثير من الخسائر له، إذا أردنا نحن تحقيق غايتنا وحريتنا وأحلامنا التي نسعى إلي تحقيقها.
هاجر الرسول ليعلمنا أن رسالة الإسلام رسالة عالمية ليست مقتصرة على أرض أو وطن أو مجتمع معين، أو ترتبط بأرض أو عرق أو لسان.
هاجر الرسول ليعلمنا أن كثرة الناس من حولنا لا تجلب السعادة بالضرورة، ولا غيابهم يجلب البؤس بالضرورة.
هاجر الرسول ليعلمنا أن مابين أهدافنا وتحقيقها حاجز واحد هو نحن ويعلمنا أن الحق جهاد، وأن العبادة جهاد، إذا كانت خالصة لوجه الله تعالي، وأن العلم جهاد، ويعلمنا أن العلم غالي، وأن الحق غالي، وأن الحلم غالي، لن يناله أصحاب الذين ينامون ويحلمون أن تتحقق أحلامهم.
هاجر الرسول ليعلمنا أن الحرية هي حرية الفكر، والكلمة، وأن البناء والحلم يبدأ بكلمه مع يدين مرفوعتين إلى السماء، ليعلمنا أن هذا الكون هو أكبر من الجميع وفيه من الاختلاف ما لا يسعه عقلي أو عقلك بل يسعه قوله تعالي “ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة” ولذلك خلقهم وأننا أمة بين الأمم وأنها لن تحترم إلا إذا هي احترمت عقولنا وشبابنا وأن الاعتزاز بهويتنا وديننا هو الاعتزاز بإرادتنا وديننا وحريتنا في الاختيار.
هاجر الرسول ليعلمنا أن لا نأمل من أحد شيئا، فالأمل الوحيد هو بالله سبحانه وتعالى، ومنه، ويعلمنا أن الخير موجود في كل مكان، لكننا نتعمد ألا نراه عندما لا نمعن النظر، ويعلمنا أن الآخر ليس دائما على خطأ، لكننا نتعمد ألا نسمع بإصغاء عندما يأخذنا الغرور والعناد.
هاجر الرسول ليعلمنا أن الهجرة معركة الحق والباطل، ومعركة الخير والشر، ومعركة الإيمان والكفر، معركة قديمةٌ ومستمرة، وبسبب أن الإنسان هو الإنسان في أي زمان ومكان، إنه يكرر نفسه، في ارتفاعه وفي انحطاطه، في قوته وفي ضعفه، في إيمانه وفي كفره واستغلاله للدين ليتربح ويحقق أهدافه الدنيوية، مثلما يحدث الآن في عالمنا ومنطقتنا العربية ومحاولات الغرب الأمريكي استغلال ضعف المنطقة العربية وتشرذم حكامها وتفرق جماعتهم، تنفيذ أحلامه وأطماعه الاستعمارية.
هاجر الرسول، وكان يمكنه أن يتنازل عن فكره ودعوته، أو يدعوا على قومه لكنه دعى له بالهداية رغم الظروف التي أحاطت به “صلى الله عليه وسلم” والأحداث التي واجهها هذه أحداث تتكرر، في كل زمان ومكان، لذلك خلقها الله لحكمة بالغة، ولعناية تامة ، ليقف النبي منها موقفاً كاملاً، يعد منهجاً لنا في حياتنا إلى أن نلقى الله عز وجل.
إنها الحكمة التي يجب أن نأخذها ونقتدي بها في حياتنا وتعاملاتنا مع الآخرين، لأننا جميعا نعيش على هذا الكوكب غرباء نأتي ونرحل غرباء، نعمر ونخرب ونحن نعلم أننا نرحل جميعا غرباء، لكن الدين الحق هو الباقي إلي قيام الساعة، اللهم اهدنا جميعا وهيئ لنا من أمرنا رشدا، وبارك لنا في إسلامنا وأعمارنا وإخواننا وأصدقائنا جميعا.