#خطبة_الجمعة
#الشيخ_محمد_أبو_النصر
التحذير مِن التبذير
إطلاق الرصاص في الهواء نموذجًا
أحد مساجد ريف حلب المحرر.
المدة: 17 دقيقة.
التاريخ: 28/ذو القعدة/1439هـ
الموافق: 10/آب/2018م
🔴 الأفكار العامة للخطبة:
1️⃣ تعريف الإسراف والتبذير والفرق بينهما.
2️⃣ مظاهر تبذير سابق بها الفقراءُ الأغنياء.
3️⃣ نهدرُ الذخيرة ولا نستعِد والله أمرَ (وأعدوا).
4️⃣ أهمية تعلُّم الرماية.
5️⃣ رفع صوت مكبرات الصوت بشكل مزعج والقيادة الرعناء للدراجات والسيارات.
6️⃣ أمرنا مُترفيها…. وتحرُّك المجتمع ضدَّ هذه المظاهر.
لتحميل الخطبة كتابيا بصيغة PDF
* ملاحظة: ما بين معكوفتين [ ] فهو شرح مُدرج في سياق ذِكرِ الدليل.
إنَّ الحمدَ لله، نحمدُه ونستعينُه ونستهديه ونستغفِرُه، ونعوذُ باللهِ مِن شرورِ أنفُسِنا وسيئاتِ أعمَالنا، مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا، وأشهد أنْ لا إله إلا اللهُ وحده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ نبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، وصفيُّه وخليلُه، أرسله ربُّه بالهدى ودين الحقِّ ليُظهره على الدين كلِّه ولو كرِه المُشرِكون، فصلواتُ ربِّي وسلامُه عليه وعلى آل بيته الطيِّبِين الطاهِرين، وأصحابِه الغُرِّ المُحجَّلين، ومن سار على دربِهم واهتدى بِهُداهم إلى يوم الدين، أمَّا بعدُ إخوة الإيمان؛ يقول الله تعالى وهو أحكم القائلين: ((يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)) [الأعراف:31].
ويقول -عزَّ مِن قائل-: ((وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا)) [الإسراء: 26-27].
وفي البخاري، عن رسول الله –صلّى الله عليه وسلَّم- أنَّه قال: ((كُلُوا وَاشْرَبُوا وَالْبَسُوا وَتَصَدَّقُوا فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلَا مَخِيلَةٍ)).
حديثنا اليوم أيها السادة عن بعض مظاهِر الإسراف والتبذير، حديثنا اليوم عن داءٍ مُدمِّرٍ للمجتمعات ومُهلِكٍ للأمم والشعوب، حديثنا اليوم عن أمراضٍ سلوكيَّة ذكرها الله تعالى في مُحكَمِ تنزيله، محذِرًا وناهيًا عنها… إنَّها الإسراف والتبذير، تعالوا معي -أيها الأحبَّة – لنعرف معنى الإسرافِ والتبذيرِ والفرق بينهما:
أمّا “الإسراف فهو تجاوز الحد فيما أحلَّه الله تعالى وأباحه إلى ما لا يُحتاج له الإنسان وإلى ما لا ينبغي له”، كمن يهدر كثيرا من أمواله مُسرفًا في الطعام والشراب واللباس وغير ذلك، مُسرِفًا؛ متجاوِزا إلى ما لا يلزمه وما لا يحتاجه.
أمَّا التبذير – أيُّها السادة- فهو أشدُّ وأدهى وأعظم إثمًا بكثير، “فالتبذير هو النفقةُ في معصيةِ اللهِ، التبذير هو إنفاق المال في غيرِ الحقِّ، التبذير هو إنفاق المال في الفسادِ والإفساد وفيما نهى الله عنه”.
الإسراف تجاوز الحدُّ في المباحِ إلى ما لا ينبغي، أمَّا التبذير فهو إنفاق المال في معصية الله، والعياذُ بالله.
ولعلَّ سائلًا يسأل: أيامُ حربٍ وفقرٍ وجوعٍ وفاقَة فأين التبذير والإسراف؟!!
وفي الحقيقة أيّها السادة مظاهر التبذير في مجتمعنا كثيرةٌ عديدة، سنخصِّصُ اليوم الحديث عن بعض تلك الظاهر، سنخصص اليوم الحديث عن عاداتٍ سيِّئة سابق فيها الفقراءُ الأغنياءَ، ومن ذلك ثلاثة مظاهِر مُشينةٍ سيِّئة: (أوَّلها: إطلاق النار في الهواء عند الأفراح والأتراح – وثانيها التفحيط (التشفيط) بالسيارات والدراجات – وثالثها: رفع صوتِ المكبِّرات بالأغاني والمنكرات)
ثلاثة مظاهِر من مظاهِر التبذير المذموم، ثلاثة مظاهِر من مظاهِر إتلاف المال، ثلاثة مظاهِر من مظاهِر معصية الله فيما رزَق، ثلاثة مظاهِر انتشرت في مجتمعنا فيها تبذيرٌ وترويعٌ للآمنين، فيها إيذاءٌ للمسلمين وإضعافٌ لشوكتهم، بل فيها مخالفة صريحةٌ لأمر النبيّ –صلّى الله عليه وسلَّم- في بعض المواضع، ومجاهرة بالمعاصي، هذا عدا عن المصائب والويلات التي تأتي من خلف ذلك في غالب الأحيان.
قال تعالى: ((وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ)) [إبراهيم:7]، لئن شكرتم بجعل نِعمتي حيث أرضى، لأزيدنَّكم مِن نِعَم الدنيا والآخِرة، وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ نِعَمي بجعلِها في معصِيتي، إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ، بحِرمان النِّعم في الدنيا وبالمعاقبة على إضاعتها في الدنيا والآخِرة.
فأين الذي يُطلِق الرصاص في الهواء -وتسقط المقذوفات على رؤوس الناس- أين هو من هذا القول، أين هو مِن وضعِ النِّعمة حيث يرضى الله تعالى، أين هو من اجتناب ما نهى الله عنه وما نهى عنه رسوله؟!!
ذاك الذي يفتح التلفاز على الأغاني الماجِنة ويرفع الصوت مُزعِجًا للناس ومجاهِرًا بالمعصية، أين هو من هذا القول؟!!
مَن يُفحِّطُ بالسيارات والدراجات النارية – والتي في كثيرٍ من الأحيان ما تكون أمانةً مِن مال الجِهاد أؤتمن عليها- أين هو من هذا القول؟!
أين أولئك مِن قول النبيِّ –صلّى الله عليه وسلَّم- : «لاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُرَوِّعَ مُسْلِمًا». [صحيح أخرجه أبو داود] أين من يؤذي المسلمين بإطلاق الرصاص ويروِّعهم في الشوارِع بقيادته الهوجاء، مِن قول النبيّ –صلّى الله عليه وسلَّم- : “يا معشرَ مَنْ أسلم بلسانه، ولم يُفْضِ الإِيمانُ إِلى قلبه، لا تُؤذُوا المسلمين، ولا تُعَيِّرُوهم، ولا تَتَّبِعُوا عوراتِهم…” [حسن أخرجه التِّرمِذي].
ألم يسمع هذا الذي يُخيفُ المسلمين، ويروِّعهم، ويزعجهم بُحجَّة فرحِه أو ترَحِه، ألم يسم قولَ ابن عُمر – رضي الله عنهما- يومَ نظر إِلى الكعبة، فقال: “ما أعْظَمكِ وأَعظمَ حُرمتكِ، والمؤمن أعظمُ حرمة عند الله منكِ”.[حسن أخرجه التِّرمِذي].
هذا المؤمن الذي نُهيت عن ترويعه، هذا المؤمن الذي نُهيت عن إيذائه، تروِّعه عاصيًا لله، مخالفا لأمر رسوله –صلّى الله عليه وسلَّم- ومِن ذلك كما في الصحيح مما أخرجه أبو داود أنَّ رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- قال: «لا تُتْبِعُوا الجنازة بصوت ولا نار».
لاحظوا أيها السادة كيف أن تلك الأفعال فيها مخالفة واضحة، لحديثٍ نبويٍّ صريحٍ صحيح، فالذين يُطلقون الأعيرة النارية في الجنائز وعند تشييع الشهداء يُخالِفون أمرًا صريحًا لرسول الله وهو القائل: «لا تُتْبِعُوا الجنازة بصوت ولا نار». فيُتبعُها أولئك بصوت الرصاص وبنار البنادِق…
هذا الشهيدُ الذي قُتِل، والذي تُطلِق النار في جنازته، لا يُريد منك أن تُطلِق الرصاص في الهواء، بل يُريد مِنك أن تبقى على العهد، وأن تثبُت بعده على الدرب، وأن تحفظَ عتادك وذخيرتك إلى يوم يجب أن تستخدمها.
لا بدَّ مِن حِفظِها استجابةً لأمرِ الله تعالى: ((وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ..)) [الأنفال:60]، الله تعالى يأمرنا (وأعدوا) ونحن ندعُ السفهاء يهدرون ذخيرتنا التي قد يأتي يومٌ لا نجد فيه من يعوض نقص الذخيرة لنا، نترك السفهاء يُهلِكون سياراتنا التي أؤتمنا عليها كمالٍ للجهاد، وقد يأتينا يومٌ نعجز فيه عن تأمين قِطع التبديلِ لإصلاحها!!
أيُّها السادة الكرام، أيها الأحبَّة الأفاضِل، في الدول االمتقدِّمة اقتصاديًا، في أوربا مثلا عندهم قاعدة يقولون لك فيها: [المال مالك، ولكنَّ الموارد ملكٌ للجميع، ولكنَّ الموارد ملك للمجتمع] … لذلك – في ألمانيا مثلًا – لو دخلت مطعمًا واشتريت الكثير من الطعام وملأت الطاولة، فأكلت بعض الطعام وتركت بعضه، سيأتي في المطعم من يُخالِفك ويُدفِّعُك غرامةً ويُقرِّعك، يقول لك: “المالَ مالُك، صحيح، ولكِنَّ ما هدرتَه ورُمي، هذا مُلكٌ للمجتمع”. فما جاع جائعٌ إلا بإسرافِ مُسرِفٍ، وما جاع جائعٌ إلا بتبذيرِ مُبَذِّر.
فكيف بنا أيها السادة ونحن في زمن حرب، ونحن نتوقَّع هجوم العدوِّ علينا، ونحن في زمنٍ واجب الوقتِ فيه الإعداد والاستعداد، ونحن نرى الدول كيف ضيَّقت علينا الذخيرة، ومُنِعَ إدخالها، ومع ذلك لازلنا نترك السفهاء من بيننا يهدرون الذخيرة التي لم تعُد تُعوَّض.
فما هدره ذلك المُبذِّر مُدَّعيًا أنَّه اشتراه بماله، هو – إن صدَق – نقص في النهاية من مجمل احتياطي الذخيرة في مناطقنا المحررة، ويا ليت شعري، ليت أولئك الشباب، ليت أولئك السفهاء، أنفقوا تلك الذخيرة في التدرُّب على الرماية.
كثيرٌ ممن نرى مِن شبابنا اليوم يتوهمون أنَّهم يعرفون كيف يستخدمون البندقية، ولكنّ معرفتهم في الحقيقة لا تتجاوز تفريغ المخازن من غير إصابة هدفٍ ولا نكايةٍ في العدو، وفي صحيح الإمام مسلم أن رسول الله –صلّى الله عليه وسلَّم- قرأ على المنبر قوله تعالى: ((وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ..)) فأتبعها – روحي فداه – شارِحًا مُفسِّرًا بقوله: “أَلاَ إنَّ القُوَّةَ الرَّميُ، ألاَ إنَّ القُوَّةَ الرَّمْيُ، ألاَ إنَّ القُوَّةَ الرَّمْيُ”.
ولكم شهدنا مِن أعدائنا الاهتمام بالرماية والمهارة فيها، اسألوا من قاتل مُلحدي PKK كم كانت دِقَّة رميهم، بل كم كانت دقَّة رمي بناتهم، وكثيرٌ منهُنَّ كُنَّ يُتقِنَّ القنص بالبندقيَّة العاديَّة، فيوفِّرون الذخيرة، وينكؤون في عدوِّهم… ونحن كثيرٌ من شبابنا لا يعرفون سوى إفراغ الذخيرة من غير هدفٍ ولا تحقيق إصابة، وليت هذه الذخائر التي تُهدرُ في الأفراح والأتراحُ يتدرَّب بها الشباب على حُسن الرماية.
لذلك أيها السادة وبعد كلِّ ما ذكرنا من المفاسِد والمضارِّ والمعاصي، كان لابدَّ لنا امتثالًا لأمر الله؛ بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، من أن نأخذ على يد المسيء وأن نمنعه وأن نزجره، لكي لا نكون ممن قال الله تعالى فيهم: ((وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا)) [الإسراء: 16]. يأتي عِقابُ الله عامًّا شامِلًا لمن أسرفَ بذَّر، ولمن رآهم وسكت عنهم.
لذلك فقد أصدرت المحاكم في مناطقنا أكثر من تعميمٍ وإنذار يتعلَّق بمنع هذه المظاهر وتجريم ومحاسبة فاعليها، ونحن جميعًا نتمنّى أن تتحوَّل هذه القرارات لتطبيقٍ حقيقي، لا رأفة ولا مُجاملة ولا تمييز فيه… وقد أعذَر من أنذَر، ولا عُدوانَ إلا على الظالمين، لا تأخذكم رأفةٌ أيُّها الأحبَّة فيمن يتجاوز ويُسيئُ ويروع الآمنين ويهدر ذخيرة المسلمين، لا تأخذكم بهم رأفةٌ، فالخَطْبُ جَلل، والقادم أدهى وأمَر، ولكنَّنا نوقِنُ بأنَّ العاقبة للمتقين، والله غالبٌ على أمره ولكنَّ أكثر الناس لا يعلمون.
اللهم ما قضيت لنا من أمرٍ فاجعل عاقبته رشَدًا.
أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه فيا فوز المستغفِرين.