المسلمون ومتلازمة استوكهولم
في أغسطس 1973 تعرّض بنك “كريديت بانكين” في السويد إلى عملية سطو مسلح، وقام سجين هارب باحتجاز بعض الرهائن لمدة ستة أيام، انضم إليه خلالها زميل له.
الغريب في الأمر، أن الرهائن قد ارتبطوا عاطفيا بمُختطفيهم خلال هذه الفترة، ودافعوا عنهم بعد إطلاق سراحهم أمام القضاء.
كريستين إنمارك كانت إحدى ضحايا الحادث، أجرت مكالمة هاتفية من داخل البنك مع رئيس الوزراء، تستجديه أن يسمح لهم بمغادرة البنك مع الخاطفين، وقالت ما نصّه: “إنني أثق بـ “كلارك” وبزميله (المُختَطِفيْن)، ولا أشعر بأي نوع من اليأس، هم لم يرتكبوا أي أمر سيء معنا، بل على العكس، كانوا لطيفين جدا”.
من هنا نشأ مصلح “متلازمة ستوكهولم” الذي صاغه “نيلز بيجيروت” الطبيب النفسي والباحث في علم الجريمة، ليُعبّر عن الحالة النفسية التي تصيب الإنسان عندما يتعاطف مع عدوه أو مختطفه أو من يسيء إليه، وذلك بعد دراسة حالات كثيرة مشابهة، تمكن المختصون من خلالها من تقرير هذه الحالية المرضية.
*علماء النفس يقولون إن ضحايا الاختطاف وأسرى الحروب والمقموعين والمضطهدين، يتعرضون لضغوط نفسية، فيبدأ العقل الباطن للضحية في إقناعه بضرورة إرضاء الجاني لتجنّب أذاه، كنوع من الحيل النفسية، وبالتالي يتجه العقل الواعي إلى إرضائه، ويتطور الأمر إلى حد التعاطف معه، ورفض أي محاولات لإخراجه من سيطرة ذلك الجاني.
يَمْثُل هذا العارض النفسي أمامنا لدى استقراء واقع الشعوب الإسلامية والعربية، والتي صارت مرتعا للأمراض والاضطرابات النفسية التي داهمتها من طول أمد الطغيان والتسلّط والقمع والديكتاتورية.
ثورات الربيع العربي كانت أحد مجالات الكشف عن هذه الحالة، فلم تكن تلك الثورات محل إجماع من الشعوب، كانت هناك فئة رافضة لتغيير المألوف بكل مساوئه، إلا أنها لم تجد مفرا من الاستسلام للسياق العام، من باب دع السفينة تُحرّكها الرياح.
كنا نتابع مسار ثورة الخامس والعشرين من يناير في مصر، وما إن خرج حسني مبارك على الجماهير بخطاب تظهر فيه الحبكة الدرامية، يدغدغ عواطف الجماهير، حتى تعرضت الثورة في الميادين لزلزلة شديدة تُنذر بتوقفها، بعدما تعاطفت شرائح عديدة مع مبارك، إلا أن (موقعة الجمل الشهيرة) نسفت أحلام الرجل في إعادة السيطرة على الأوضاع.
*قطاعات من الشعب الليبي كذلك كانت ترفض الثورة على القذافي رغم كل جرائمه، مدفوعين إلى ذلك برواتب بدل البطالة التي كان ينالها الرجل الليبي وهو قاعد في بيته، أو بالحصة التموينية المجانية التي تأتيه كل شهر، وكأن القذافي يُغدق عليهم من جيبه الخاص.
مشهد القبض على القذافي الذي كان يختبئ في قنوات الصرف وضربه وتوسّلاته، حرك قلوب هذه الفئة، ووصفوا ما حدث بالإساءة إلى والد مُسن، لا بد من احترامه وتوقيره مهما أساء، وتنادوا بالقواعد الأخلاقية في التعامُل إلى الأسرى.
ما حدث في مصر وليبيا وغيرهما من دول الربيع العربي يجعلنا نستحضر متلازمة ستوكهولم، إذ أن هذه الشعوب- وبمعنى أدق فئات منها- تأقلمت مع الاستبداد والقمع، وانتابتها تلك الحيلة النفسية في الهروب من ضغط الواقع بالرضا به، لذا كانت هذه الفئات تهتف للحاكم لمجرد كسرة خبزٍ يرمي بها إليهم.
*استعذاب ألم الاضطهاد والاستبداد يظهر في مقولاتٍ عامة يرددها البعض، كقولهم “نحن شعب لا يسير إلا بضرب النعال”، أو “ما تعرفه أفضل مما لا تعرفه”، ولذا وجدت هذه الفئات ضالتها في قيام الثورات المضادة التي أوقفت مسيرة الربيع، فزعموا أن الفتن والاضطرابات التي أعقبت الثورات أثبتت صحة مسلكهم الخانع.
*ظهرت تطبيقات هذه الحالة المرضية في رضا بعض الفلسطينيين والعرب عموما، بالاحتلال الإسرائيلي، وظهر من كتّاب ومثقفي وسياسيي العرب، من يتعاطف مع الصهاينة، ويستنكر عمليات المقاومة الفردية والجماعية، ويعتبر الدفاع المشروع عن الأرض إرهابا.
بل ذهب آخرون إلى أبعد من ذلك، وشرعنوا الوجود الإسرائيلي في فلسطين، بزعم أقدمية السكنى، أو بنصوص توراتية، ومن ذلك ما ذكره د. حسن صبري الخولي في كتابه “سياسة الاستعمار والصهيونية تجاه فلسطين في النصف الأول من القرن العشرين”، في معرض تعليقه على نص من سفر التكوين (لنسْلِك أعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير، نهر الفرات).
فقال الخولي مُعقّبا “العهد الإلهي ليس موجها إلى اليهود وحدهم، وإنما هو وعد لإبراهيم وذريته: إسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، والأسباط، يتساوى في ذلك الحق إسحاق جد اليهود، وإسماعيل جد العرب، وعلى ذلك فالحق في فلسطين ليس مقصورا على اليهود، وإنما هو لذرية إبراهيم على الإطلاق، ومن هذه الذرية العرب واليهود”.
فجعل للكيان الإسرائيلي حقا مماثلا للفلسطينيين في القدس وما حوْلها، فيما ادعى البعض أن هذا الحق للإسرائيليين يأتي من أقدمية السكنى، وقد سبق لي أن تناولتُ الرد على هذه الشبهات في مقالة لي على صحيفة عربي21 الإلكترونية بعنوان: “يا معشر المنبطحين القدس ليست لهم”.
وكانت فترات الاحتلال التي سميت بـ الاستعمار على سبيل التضليل، تُظهر هذه الحالة المرضية، فواجه البعض استبداد الاحتلال الجاثم على صدور الشعوب، بالتعايش النفسي معه، وصل في بعض الأحيان استحسان وجوده، بل ورفض رحيله، حتى وجدنا من الآباء والأجداد، من يترحم على أيام الإنجليز والفرنساوية والطليان.
*لقد كانت الكارثة الكبرى عندما امتزجت هذه الحالة المرضية بالبُعد العَقَدي لدى بعض الطّرق الصوفية المغالية في مواقفها من الاستعمار، فالقول بوحدة الوجود، وجعْل الشر والخير والإيمان والكفر شيئا واحدا، وما ترتب على ذلك من القول بوحدة الأديان، وكذلك تمحور نظرية العشق الإلهي وما يتقدمه من الحب المطلق لجميع الكائنات والأشياء، إضافة إلى الخلل في تناوُل مسألة القضاء والقدر.
*كل ما سبق جعل بعضهم يتأقلم ويتعايش نفسيا مع قوى الاحتلال في بلاد المسلمين، يقول د.عمار علي حسن في كتاب “الصوفية والسياسة في مصر”: “الشيخ محمد إبراهيم الجمل شيخ الطريقة السّمّانية، وصل به الحال في تأييد الإنجليز إلى جمع توقيعات المواطنين ضد ثورة 1919، والدعوة إلى بقاء الإنجليز”.
*إننا في ظل الأجواء والأوضاع التي تضغط فيها فزاعة الإرهاب والعنصرية والطائفية، لا ينبغي أن ننساق وراء دعوات التعايش النفسي مع أعدائنا تحت مظلة التسامح والسلام.
أن تضع عدوك في مكانه الطبيعي من الكراهية المبنية على أساس، لا يتعارض مع التسامح والعدل معه.
لسنا ملزمين بوصايا “أحبوا أعداءكم”، فالحب في الله والبغض في الله أوثق عرى الإيمان، ولسنا مطالبين سوى بالتسامح والسعي إلى إقرار السلام والعدل، لنا مشروعية القصاص ودفع الصائلين والمحتلين والمستبدين.