#خطبة_الجمعة
#الشيخ_محمد_أبو_النصر
خسوف القمر
والتفكير بعظيم قدرة الله
أحد مساجد ريف حلب المحرر.
المدة: 28 دقيقة.
التاريخ: 14/ذو القعدة/1439هـ
الموافق: 27/تموز/2018م
🔴 الأفكار الرئيسة في الخطبة الأولى:
1️⃣ آيات الله الكونية وعظمَةُ التفكُّرِ بها.
2️⃣ خسوف القمر وسببه الظاهر، والحِكمة من ذلك.
3️⃣ ما شرَعَه النبي -صلى الله عليه وسلم- عند الكسوف والخسوف.
4️⃣ حال أهل الإيمان مع آيات الرحيم الرحمن.
5️⃣ إيمانٌ كالجبال وقر في قلوب أفرادٍ فصنعوا ما عجز عنه كثيرون.
6️⃣ لا مكان لليأس، والمؤمنُ أمَّةٌ بنفسه.
7️⃣ أزمةُ إيمان !!!
8️⃣ ما عرف الله من قدَّم أمرَ غير الله على أمر الله، ومثال عاقبة ذلك ما رأيناه في درعا والغوطة وريف حمص …
9️⃣ نقف ساعاتٍ بباب الخلق ولا نقف دقائق بباب الخالِق!!!
🔴 الأفكار الرئيسة في الخطبة الثانية:
🔟 دعاء
لتحميل الخطبة كتابيا بصيغة PDF
* ملاحظة: ما بين معكوفتين [ ] فهو شرح مُدرج في سياق ذِكرِ الدليل.
الخطبة الأولى:
الحمد لله الملكِ القهَّار العظيمِ الجبَّار، خلقَ الشمسَ والقمرَ وسَخَّر الليلَ والنهارَ، فسبحانه من إلهٍ عظيم خضعت له الرقاب ولانت لقوته الصعاب، توعد بالعقوبةِ من خرجَ عن طاعته ((وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً)) [فاطر: من الآية45]، ويجازيهم على أعمالهم يوم الحساب، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةَ من أيقنَ باللهِ مِن غيرِ شكٍ ولا ارتياب، وأشهد أنَّ محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلَّمَ وباركَ عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم المآب؛ أمَّا بعد إخوة الإيمان:
((تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا)) [الفرقان:61-62].
تباركَ الله ربُّنا، في كلِّ شيء له آيةٌ تدلُّ على أنَّه الواحِدُ، تبارك الله ربُّنا،
((وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ)) [الأنبياء: 33]. كلٌ في مدارات يسيرون، لا يطغون ولا يبغون، كلٌّ يسير بقدرِه الذي قدَّره الله له، ((صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ)) [النمل:88]، ((فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ)) [الأنعام:96].
في تفسير هذه الآيات يقول الإمام ابن كثير- رحِمهُ الله-: “وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً؛ أَيْ يَجْرِيَانِ بِحِسَابٍ مُقَنَّنٍ مُقَدَّرٍ، لَا يتغيَّر ولا يضطرب، بل لكلٍّ منهما مَنَازِلُ يَسْلُكُهَا فِي الصَّيْفِ وَالشِّتَاءِ، فَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ اخْتِلَافُ الفصول واختلاف اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ طُولًا وَقِصَرًا”. قدَّر الله هذه الأقدار – أيَّها الأحبَّة – لتنضبط بذلك أوقات العبادات، وآجال المعاملات، ((هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)) [يونُس:5]، جعلها لكم وسيلةً لتنضبط معكم الأيام والشهور، فتصِحَّ معاملاتكم وتنضبط أموركُم.
كلٌ من الشمس والقمر والنجوم وسائر الأفلاك، كلٌّ يسير بقدَرٍ محدد، ((لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ)) [يس: 40]، ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ، فالجَمِيعُ جَارٍ بِتَقْدِيرِ الْعَزِيزِ الَّذِي لَا يُمَانَعُ وَلَا يُخَالَفُ، الْعَلِيمِ بِكُلِّ شَيْءٍ، لَا يَعْزُبُ عَنْ عِلْمِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ.
الله تعالى ربُّنا ومولانا، خلَقَنا وسوَّانا وسنَّ لنا في هذا الكون سُنَنًا تستقيم بها حياتنا، وجعل لنا فيها آياتٍ عظيمة ليستقيم إيماننا أيضًا، لكي يقوى إيمانُنا، لكي نجدِّد إيماننا، جعل لنا في هذا الكون ما يُذكِّرنا بعظيمِ قدرته، ما يذكِّرُنا بعظيمِ قوته وجبروته وقهرِه، هذه الآيات التي نراها في هذا الكون، هذه الآياتُ التي غدونا نعرِف بما علَّمنا الله إيَّاه من العلوم كيف تجري ظاهرًا، هذه الآيات والله ما تزيدُ المؤمنَ إلا إيمانا بالله الواحد القهار.
واليوم -أيَّها السادة- بعد صلاة العشاء بساعة، سيكون خسوفٌ كلِّيٌ للقمر، وهو عِلميا يحصل عندما تمر الأرض بين الشمس والقمر على خطٍ مستقيمٍ واحد، فالقمرُ يستمدُّ نوره من الشمس، فإذا مرَّت الأرض بينهما على خطٍّ مستقيمٍ واحد حصل خسوف القمر، يراه الناس وقد بدأ يغيب البدر جُزئيًا حتى يختفي ثم يظهر، أحمرًا بلون الدم.
عرفنا التعليل العلمي، وعرفنا أنه بقدرِ الله تمرُّ الأرض بين الشم والقمر على نفس الاستقامة فيحصلُ الخسوف، يحصلُ الخسوف الذي يخوِّفُ الله به عباده، يحصل الخسوف الذي يذكِّرنا بخالقٍ قادرٍ مقتدِر، يحصل الخسوف الذي يذكِّرنا بيومٍ قال عنه خالِقُ القمَر: ((فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلَّا لَا وَزَرَ (11) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12))) [القيامة:7-12].
خُسِف القمر وكُسِفت الشمس في زمن النبيِّ –صلَّى الله عليه وسلَّم- ، وقد كان الناس في ذاك الزمان يتوهمون أنَّ الشمس تُكسف أو أنَّ القمرَ يُخسَف لموتِ عظيمٍ من البشرِ أو ولادته، ووافق كسوف الشمس في زمن النبي –صلَّى الله عليه وسلَّم- موتَ ولده إبراهيم، فقال الناس: “كُسِفَت الشمس لموت إبراهيم”. هكذا توهَّموا بما حفِظوا من كلام الجاهليَّة.
فقام فيهم النبي –صلَّى الله عليه وسلَّم- مُعلِّما، وهو الصادق الأمين، وهو الذي ما ينطِق عن الهوى إن هو إلا وحيٌ يُوحى، قام فيهم وهو الذي بُعِثَ بدينِ الحق ليدفَع تُرَّهاتِ الجاهلية، فقال روحي فداه: “إِنَّ الشمسَ والقمرَ آيتان من آياتِ الله، لا ينكسِفان لموتِ أحدٍ، ولا لحياته، ولكِن يُخوِّف اللهُ بهما عباده”. فالذي خسَف القمر قادرٌ على أن يخسِفه دائما، والذي كسَف الشمس قادرٌ على أن يكسِفها سرمدًا دائما، ((قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ)) [القصص: 71].
أنتم وكُلُّ علومِكُم، وكلُّ ما سيعرفه البشر إلى أن تقوم الساعة، إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ!!!
((قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ)) [القصص: 72].
أفلا تُبصِرون أيها الناس هذه الآياتِ العظيمة، أفلا تُبصِرون أيها الناس هذه الآياتِ التي تذكِّركم بخالِق الأكوان، خالِق الأرضين والسماوات، أفلا تُبصِرون، أفلا تعقِلون، أفلا تتدبَّرون…
هذه الآيات -أيَّها السادة- يذكِّرنا الله بها بعظيمِ قُدرته، بعظيمِ جبروتِه وقوَّته، ونحن الذين تأخذنا الدنيا في دوامتِها، لاهثين خلف الأسباب، متجاهلين قدرة مسبِّب الأسباب.
نحيا في هذه الأرض فنغفل قليلا، فتأتي هذه الآيات العظيمة لتذكِّرك بموقعِك أيها الإنسان، فما أنت إلّا ذرَّةٌ صغيرة على أرضٍ لا تعدوا ذرَّةً في بحرٍ من المجرَّات التي تحوي مليارات النجومِ والكواكِب، مِن صُنعِ الله العزيزِ القهَّار.
لذلك تعالوا معي لنتعرف ردَّة فعلِ النبي –صلَّى الله عليه وسلَّم- والصحابة لمَّا حصل الكسوف والخسوف.
لمَّا حصل ذلك زمن النبيِّ –صلَّى الله عليه وسلَّم- فزِعَ فزعًا شديدًا، وخرج إلى النَّاس يجرُّ رداءه، ونادى: “الصلاةُ جامعة”، ثمَّ كبَّر وصلَّى ركعتين، في كلِّ رَكعةٍ منهما ركوعان وسجودان، قبل كلِّ ركوعٍ يقرأ الفاتحة وسورة، وأطالَ القراءةَ والقيامَ والركوعَ والسجود والقعود، وجعل كلَّ قراءةٍ أطولَ من التي تليها، قرأ قبل الركوع الأول سورة البقرة، وما بعده أقصرُ من ذلك بقليل، وأطال الركوع بمقدارِ التلاوة، وأطال السجود والقعود كمثل ذلك، أطال الصلاة حتى انكشف الأمر، وقد قال روحي فداه:
“فإذا رأيتموهما – أي خسوف القمر أو كسوف الشمس- فادعوا الله وصلُّوا حتى ينجلي”، وفي حديثٍ آخر –وكل هذه الأحاديث متفقٌ عليها-: “فادعُوا الله وكبِّروا وصَلُّوا وتصدَّقوا”.
هكذا كان سلوك النبيِّ، وهكذا كان شأن الصحابة الكرام مع الكسوف والخسوف، هكذا كان شأنهم، وهذا شأن كل من أيقن بأنَّ هذه الآيات جعلها الله بعظيم قدرته وسطوته وجبروته تنبيهًا للغافلين، كما جعلها تقويةً ليقين المؤمنين.
((إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192) رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194))) [آل عِمران: 190-194].
هكذا حال أهل الإيمان مع آيات الرحيم الرحمن، هكذا حال أهل الإيمان، ما تزيدهم هذه الآيات إلا توجُّها إلى الله ، إلا خوفًا من الله، إلّا رجاءً بعظيم رحمة الله، إلَّا رغبةً ورهبة منه وبه وله سبحانه وتعالى، أهل الإيمان بهذا – أيُّها السادة- لا يهابون إلا الله، ولا يُعظِّمون إلا الله، ولا يرجون إلا الله، ولا يخافون إلا الله، يأخذون بالسبب طاعةً لأمرِ مُسبِّبِ الأسباب ولكن قلوبهم لا تتعلق إلا بالله وحده سبحانه وتعالى، فهو الفعَّال القدير المقتدر، هو المعطي المانع الخافض الرافع القابض الباسط، المُعِزُّ المُذِل، وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ، الذين تدعون مِن دونِ الله لا يملِكون لأنفُسِهم ضَرًّا ولا نفعًا.
نسي البعض – أيُّها الأحبَّة – بأنَّ الله أمرنا بالأخذ بالسبب ولكِنْ على الله قصد السبيل، فمنهم من ضعُف إيمانه وكان يقينه على الأسباب وحدها، تعلَّق قلبه بالأسباب ونسي قُدرةَ مُسبِّبِ الأسباب، هذا ضعيفُ الإيمان، هذا مهزوزُ الإيمان.
وكان في مقابِل ذلك أيضا، جاهِلُ الإيمان، من عصى ربَّه من حيث لا يدري ولم يأخذ بما أمره الله به مُدعيًا التوكُّل على الله، مُدعيًا الاعتماد على الله!!
الله تعالى قال وكان حقًّا علينا نصر المؤمنين، ونحن بهذا مؤمنون موقنون، ولكنه هو أيضا من أمرنا قائلا: وأعدوا، واصبروا، واعتصموا، ولا تنازعوا.
الإيمان الحقيقي أيها السادة، إيمانٌ يوجِّهُك للتوازُنِ في هذه الدنيا، فتأخذ بالسبب بمقدار الاستطاعة، ولكنَّ القلب لا يتعلَّقُ إلا بمسبب السبب، ولكنَّ القلب لا يتعلَّقُ إلا بالله، ولكنَّ القلب مطمئنٌ بأنّ أعداء الله مهما مكروا وأرادوا ، فمكر الله أعظم، وما قدَّره الله كائن.
الصحابة الكرام لما وقع الإيمان الحق في قلوبِهم، لمَّا كان إيمانُهم ثابِتًا راسِخًا لا يهتزُّ، كان كل واحدٍ منهم أمَّة يعمل ولا يعجَز، يسعى لنصرةِ دينِ الله ولو بمُفردِه لا يكَلُّ ولا يمَلُّ ولا يستسلِم…
فهذا ابن مسعود – رضي الله عنه وأرضاه- وهو مِن أضعف الصحابةِ جِسما، يقف في مكَّة بين صناديد قريشٍ يتحداهم بكلمة التوحيد في بيت الله الحرام فضربوه آذوه ولم تأخذه في الله لومةُ لائم.
وهذا أبو بصيرٍ – رضي الله عنه وأرضاه- وصَلَ إلى النبي –صلَّى الله عليه وسلَّم- وقد تمَّ الاتفاق مع قريش يوم الحُديبية، وفيه أنَّ من أتى محمَّدًا ردَّه إلى قريش، فما كان من أبي بصير؟ أيئسَ؟ أستسلم؟ لا والله ، لم يعجَز ولم يستسلِم، مضى مع من أخذه من قريش حتى إذا كانوا في الطريق غافلهم واستلَّ سيف أحدهم وقتلهم، ولكي لا يُحرِج النبيَّ –صلَّى الله عليه وسلَّم- ، نأى بنفسه إلى مكانٍ بعيدٍ عن المدينة إلى ساحِل البحر، وصار كلّ من أراد الخروج من مكَّةَ مسلمًا يلتحق به، فنظَّم قاعدة جهادٍ مستقِلَّة عن النبي –صلَّى الله عليه وسلَّم- فيُغير على قوافِل قريش، حتى غددت قريش تترجى النبيّ –صلَّى الله عليه وسلَّم- أن لو أعادهم إليه!!!
هذا شخصٌ ولكنَّه بإيمان راسخٍ كرسوخ الجبال، هذا شخصٌ وقَرَ في قلبه أنَّ الله تعالى هو الفَعَّال، هذا شخصٌ مؤمن وقع يقينُه على الله وليس على الأسباب.
وفي زماننا – أيُّها الأحِبَّة- في عصرِنا، كم رأينا من أمثال أولئك الشباب الذين وقر في قلوبهم إيمانٌ لا يهتز… أول هذه الثورة المباركة، لكَم رأينا مِنَ الشبابِ الصادقين، الذين ضحُّوا بالنفسِ والنفيس، والغالي والرخيص، أولئك الذين وقفوا في وجه الظالِم وقدَّموا التضحيات قبل الفتح؛ لم يدر أحدهم بأنَّنا سنحرر أراضٍ وسنسودُ عليها، وسيغدو معنا سلاحٌ بين أيدينا، وسنختلِف فيما بيننا، ثُمَّ سيُصلِحُ الله حالنا وسننتصِر بإذنِ ربِّنا… لم يروا كل هذا ولم يعاينوه، إنَّما وقَرَ في صدورِهم إيمانٌ راسخ دفعهم للوقوفِ في وجه الظلمة والطغاة.
وهذا حال المؤمنين في كلِّ زمانٍ ومكان، لا يكَلُّون ولا يمَلُّون، لا يقيلون ولا يستقيلون، يقينهم بالله كبير، وثقتهم به عالية، يسعَون باذلين جهدهم، كلما رأوا آيةً زادتهم إيمانًا.
كلما رأوا آية زادتهم يقينًا بعظمة الله، وبقُدرةِ الله، وبعظيم جبروته وملكِه سبحانه وتعالى.
فانظروا إخوة الإيمان في عظيم آيات الله، لتعرفوا عظيم قدرته، ولتعلموا أيضا عظيم رحمته وحِلمه على عباده.
تخيلوا – أيُّها السادة- هذه الأرض التي لا تعدوا كلها رأس دبوسٍ بين مليارات النجوم والمجرات التي لا يعلم مُنتهاها إلا الله، انظروا اليوم خسوف القمر وتفكَّروا وتذكَّروا أين أنتم وما حجمُكم وأين تعيشونَ وتقِفون، تذكَّروا أن هذه الأرض كُلَّها بكل ما عليها من البشر لا تعدوا نُقطَةً ولا أقلَّ مِن ذلك في بحرِ ما خلقه الله … ومع هذا فعلى ظهر هذه الأرض من يكفر بالله! من يُشرِك مع الله! من يُحاد الله! من يظلم خلقَ الله ولا يخافُ نقمة الله الذي بيده تحريك السماواتِ والأرضين والنجوم والشموسَ والأقمار!! تفكَّروا في ذلِك لكي تعرفوا سفاهة أولئك وخِفَّة عقولِهم وفجورهم، ولتعرفوا في المقابِل مدى رحمة الله وكرم الله وحِلمِ الله.
يتجبَّرُ المُتجَبِّر، ويتكبَّرُ المُتَكبِّر وينسى الجبار القهار المتكبِّر الحقَّ سبحانه، ينسى خالق ومسيِّر النجوم والكواكب والأفلاك، ينسا الجاهِلُ الغافِلُ خالِقها وبارئها ومسيِّرَها، الذي يُسيِّرُها في كلِّ لحظةٍ ولمحة ونفَس بمقدارٍ لا تزيغ عنه ولا تطغى،
((لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ)) [يـس:38-40].
والله أيُّها الناس إنَّ الله عظيمٌ جبَّارٌ قهَّارٌ قادِرٌ مقتدرٌ فعَّالٌ لما يريد، قادرٌ على أن يحوِّل حزننا فرحا، وهزيمتنا نصرا، وتراجعنا تقدّما، ((فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ * وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ)) [الذاريات:50-51]
فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ؛ بالتزام أمرِه واجتناب نواهيه.
وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ؛ بأن تُقدِّموا أمر غيرِ الله على الله.
أمريكا ليست إلهًا، وروسيا ليست إلهًا، وإيران ليست إلهًا، وتركيا ليست إلهًا، فدول الأرض قاطبةً، حكومات العالمِ أجمع كلهم مخلوقاتٌ وعبيدٌ لله وحده، فلا تُقدِّموا أمر غيرِ الله على الله، ((…اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)) [الأعراف:128].
اتقوا الله، والتزِموا أمره، ولتعلموا أنَّ النصر ينتظِر من أقامَ ذلك.
هل تعلمون أيُّها السادة؟!! والله الذي لا إله إلا هو، ما انكشفت سوءاتنا، وما فُضِحت عوراتنا، وما خسِرنا أراضينا، إلّا لمّا قدَّمنا أمر غيرِ الله على الله، أمرنا الله بالاعتصامِ بحبلِه المتينِ، فتنازعنا، أمرنا أن لا نطيع الذين كفروا، فأطعناهم، أمرنا أن لا نسوِّد علينا الفجَرَةَ الفسقة، فجعلناهم سادةً علينا وأطعناهم فقدَّموا أمر غيرِ الله على الله…
هاجم الكفَّار حلب، فأمرت أمريكا أهل درعا أن لا يتحرَّكوا والله أمرهم أن ينصروا إخوانهم، فقدَّموا أمر أمريكا على أمر الله، ووعدَ أمريكا على وعدِ الله، فما كانت عاقبتهم؟!! هاجم الأعداء ريف حِمص، فأمر الكفارُ أهلَ الغوطة أن لا يتحرَّكوا لنصرتِهم، فما كانت عاقِبتهم؟!! فسقطت المناطق والمُدن واحِدةً تلو أخرى.
في كلِّ مرَّة يُقدِّمون أمر غيرِ الله على الله، ولو اعتصموا بأمرِ الله، ولو استمسكوا بدينِ الله، ولو استعانوا بالله وصبروا لكان حقًّا على الله أن ينصُرَهم، ((وكان حقًّا علينا نصرُ المؤمنين)).
نحن أيها الناس مشكلتنا مشكلةُ إيمانٍ مع الله، نحن ندَّعي الإيمان ولكنَّ أفعالَنا أفعالُ من لا يؤمن بالله!!
لو آمنّا بأنَّ هناك إلهً واحدًا أحدًا قاهِرا قادِرًا مقتدِرًا جبَّارًا بيده ملكوت السماوات والأرض سبحانه وتعالى عما يُشرِكون، لما أشركنا مع الله أمرَ غيرِ الله، ولما قدَّمنا أمرَ غيرِ الله على أمرِ الله، ولكان الله أعزَّنا وأغنانا ونصرَنا … فلنبدأ من الليلة ولنعاود تجديد إيماننا، فرسول الله قال: “ إنَّ الإيمان ليَخلَقُ في جوفِ أحدكم كما يخلَق الثوب، فاسألوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم”. رواه الطبراني في الكبير والحاكم وقال الهيثمي إسنادُه حسن.
فرصةٌ لنا اليوم فيما نراه من آياتٍ كونية، يجعلها الله لنا لكي نجدِّد إيماننا، لكي نزيد يقيننا، لكي نُعظِّمَ الله في قلوبنا فلا نرجو إلا الله، ولا نتوكَّلُ إلا على الله، ولا نسألُ غيرَ الله…
يا من أهمتك الدنيا وامتلأ قلبك همًّا، يا من تنشر الذُّعر بين المسلمين وقد ملأ الخوف قلبك، تذكَّر أن الله على كُلِّ شيء قدير، وكُن مع الله ولا تبالي.
يامن تسأل الخلق وتقف ببابهم الساعات الطويلة…
يذهب أحدُنا إلى الطبيب ويقِف ببابه ساعاتٍ طويلة، والله تعالى هو الشافي، يقف أحدنا بباب من قصده بحاجةٍ ساعاتٍ يتزلَّفُ إليه، والله هو المُعطي … أنا لا أقول لك: “لا تأخذ بالأسباب! ولكن أقول لك: لا تجعل الأسباب ربًّا من دونِ الله.
يا من تريدُ الرِزق، اسع واعمل واسألِ الله، يا من تقف ساعاتٍ بباب الطبيبِ مُنتظِرًا، هلّا وقفت بين يدي الله نِصف ساعة تسأل الله الشفاء، وأنت تقف هناك الساعات الطويلة؟!!
يا من تسعى وتسأل وتبحث من عيادةٍ إلى أخرى تريدُ أن يرزُقك الله الذُّرِّية والولد، تقضي الساعات في ذلك، خذ بالأسباب، ولكن هلا وقفت دقائق بين يدي مسبب الأسباب، في ساعةٍ من آخِر الليل، ساعةَ “يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرِ، يَقولُ مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ، مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ” [متفقٌ عليه].
هلَّا وقفت بباب ربِّك الكريم القادِر، ولو ربع ما تقفُ بباب الخلق، تسأل الله تعالى الذرِّية، تسأل الله تعالى الشفاء، تسأل الله تعالى المال، تسأل الله تعالى النصر على الأعداء… قارن هذا بفعلك حقيقةً لتعرِف مقدار إيمانك.
ولتتذكر دائمًا أيها الإنسان، بأنَّك مخلوقٌ وأن الله تعالى هو خالِق الخلق، تذكر أنك الضعيف وأن الله القوي، تذكر أنك الفقير وأنّ الله تعالى هو الغني، تذكر أنّك المحتاج وأن الله تعالى هو المعطي، تذكر أن ما قدَّره الله كائن، وأنَّ مكرَ الله أعظم مِن مكرِ الماكِرين، وأن العاقبة للمتقين…
ختامًا: إياك أخا الإسلام والانجرار خلف حرب الشائعات النفسية على المؤمنين، إياك واليأس والقنوط، إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ.
جعلني الله وإياكم مِمَّن إذا ذُكِّر ادَّكَر، وممن إذا وعِظ اعتبر، ومِمَّن إذا أُعطِي شكر، وإذا ابتُلي صبر، وإذا أذنب تاب واستغفر، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه فيا فوز المستغفرين.