البدر المنتفخ – هل بدأنا صيام رمضان متأخرا؟

فقه الصائم - البدر المنتفخ

بقلم: شادي عبد الحافظ / قناة الجزيرة

لا يمر شهر رمضان إلا وتنشأ حالات جدل حول كيفية الرؤية ومواعيد الصوم والصلاة، في بعض الأحيان يكون الجدل خفيفا، ويمر مرور الكرام، وفي أحيان أخرى يتصاعد حد السماء، نتذكر مثلا حادثة شهيرة في عام 2011 حينما أعلنت الجمعية الفلكية بجدة أن المواطنين السعوديين قد أفطروا بسبب رصد بعض الأشخاص لكوكب زحل وليس هلال شوّال، وكان رصد القمر، من وجهة نظر فلكية، غير ممكن وقتها، ثم خرجت بعد تلك الحادثة أحاديث جانبية تقول إن المملكة دفعت مبلغا ضخما كفّارة عن ذلك الخطأ.

وتشهد أجواء الوطن العربي هذه الأيام جدلا يتكرر كل عدة سنوات1 له علاقة بموعد البدر، حيث التقط الناس صورا بهواتفهم النقالة خلال الأيام القليلة السابقة للقمر وظهر في الصور أنه مكتمل، فتصور البعض أن البدر قد حل في الحادي عشر من رمضان، وكان المفترض -كما تصوروا- أن يكون في الرابع عشر من رمضان، من هنا ادّعى البعض أننا قد صمنا رمضان متأخرا، ولاقت تلك الادعاءات قبولا واسعا على وسائل التواصل الاجتماعي.

وتزامن ذلك مع إشارات أخرى بدأت من يوم الأربعاء (16 مايو/أيار 2018)، المتمم من شعبان، حيث تمكن الناس في الشوارع من رؤية هلال رمضان واضحا بعد الغروب في يوم لا صيام فيه، ما دفع البعض إلى الظن أن المختصين بالرؤية قد فوّتوا يوما كاملا في رمضان، وانتشرت وقتها صور الأهلة على مواقع التواصل، كانت تلك الموجة الأولى من الجدل هي السبب في ظن الناس أن صور بدر الأمس تؤكد أن الناس قد صامت بالخطأ في رمضان هذا العام، لكن هل حدث ذلك بالفعل؟

دوران القمر

فقه الصائم - البدر المنتفخ

الإجابة المختصرة: لا، لم يحدث. لكن لفهم السبب في كل ذلك الجدل يجب أن نبدأ بتعلم بعض الأساسيات البسيطة جدا، مع توضيح أن الهدف من هذا التقرير هو فقط تبسيط الفكرة دون الدخول في حسابات معقدة، الآن سوف أحتاج منك أن تضع أمامك مصباحا ذا قدرة إضاءة عالية، ثم تمسك بكرة بلاستيكية صغيرة وتمد يديك إلى الأمام بها، ثم تدور حول نفسك أمام المصباح، هنا سوف تلاحظ ببساطة أن إضاءة2 ذلك المصباح ستنعكس على تلك الكرة في يديك، لكن هذا الانعكاس سيعطي إضاءة تختلف شيئا فشيئا مع دورانك، فمثلا حينما تكون في مواجهة المصباح لن تتمكن من رؤيتها بوضوح لأن شدة إضاءة المصباح تعميك (تأمل الفيديو التالي).

أما حينما تبدأ في الدوران فسوف تلاحظ تزايد إضاءة المصباح على الكرة، بالضبط كأطوار القمر التي تبدأ بالهلال، ثم يتزايد قليلا فيمتلئ حتى التربيع الأول، ثم البدر، يحدث البدر حينما يكون ظهرك للمصباح والكرة أمامك فتراها مضيئة بالكامل من منظورك (تخيل فقط أنك صغير الحجم بحيث تمرر الضوء للكرة)، ثم بعد ذلك تتناقص إضاءة القمر حتى تعود إلى الصفر من جديد، يعني ذلك أن أطوار القمر بالأساس ليست إلا منظورنا على الأرض تجاه القمر، أما القمر نفسه فهو مضاء دائما بنسبة 50% من قِبَل الشمس كما يظهر بالتصميم المرفق.

جميل جدا، دعنا الآن نوضح أن القمر لا يدور حول الأرض في المستوى نفسه3، ولكنه يميل في مداره حولها بقيمة 5.5 درجة تقريبا، ما يعني أنه يرتفع عن مستواها في بعض الأحيان وينخفض في الأحيان الأخرى، لذلك لا يحدث الخسوف والكسوف كل شهر حينما يمر القمر بين الشمس والأرض أو خلف الأرض، يحدث ذلك فقط حينما يتصادف وجود ثلاثتهما في المستوى نفسه أثناء هذا المرور، لذلك في الحالات التي يمر فيها القمر أمام الأرض بزاوية مختلفة قليلا قد يكون بجانب الشمس، لكننا لا نراه طبعا لأن الشمس تضيء السماء كلها نهارا فتعمينا، كالمصباح، عن رؤيته.

فقه الصائم - البدر المنتفخ

 

قمر كل يوم

الآن دعنا نتأمل تلك الدورة الخاصة بالقمر لكن من منظورنا على الأرض، يولد الشهر القمري الجديد حينما يكون القمر واقفا تماما بجوار الشمس (“قمر جديد” (New Moon))، فلا نتمكن من رؤيته لأنه سيغرب معها بالتأكيد، ثم في اليوم التالي يكون القمر قد تحرك في دورته قليلا4 مبتعدا عن الشمس، بينما تظل الشمس ثابتة (لنفترض الآن فقط أنها كذلك، سنلغي حركة الأرض للتبسيط)، بالنسبة إلينا يعني ذلك أن القمر سيغرب بعد الشمس بنحو 50 دقيقة، وفي كل يوم يبتعد القمر ويزداد موعد غروبه عن موعد غروب الشمس 50 دقيقة إضافية، فإذا غربت الشمس، مثلا، في السادسة مساء يغرب القمر معها يوم ميلاده، ثم بعدها بيوم يغرب في 06:50، ثم نضيف جرعة إضافية في اليوم التالي فيغرب القمر في 07:40، ثم 50 دقيقة إضافية فتغرب الشمس في السادسة والقمر في 08:30 مساء، وهكذا نستمر في إضافة 50 دقيقة كل يوم، ويستمر القمر موجودا في السماء لفترة أطول ومسافة أكبر بينه وبين الشمس.

فقه الصائم - البدر المنتفخ

يعني ذلك أنه في يوم البدر، بعد نحو 14 يوما، سيكون قد مر عدد من الدقائق يسمح أن يشرق القمر (من الشرق) في اللحظة التي تغرب فيها الشمس من الجهة الأخرى، ويظل القمر يتباعد في غروبه عن الشمس يوما بعد يوم حتى يصل إليها من الجهة الأخرى فيتقابلان من جديد ويبدأ شهر آخر، بالطبع لا حاجة لنا أن نوضح أن كل هذه هي أمثلة للتقريب فقط، بينما في الحقيقة يحتاج بالطبع الأمر إلى حسابات فلكية أكثر تعقيدا من ذلك، لكن الفكرة واحدة.

الآن دعنا ننتقل إلى أول اللغز، يتحدد الشهر الهجري بالرؤية، والرؤية هي أن تخرج لتبحث عن القمر في السماء، لكن متى نبحث عنه؟ في الغروب التالي لميلاد القمر (اللحظة التي يقف فيها القمر بجانب الشمس). إذا كان قد ابتعد عنها بما فيه الكفاية، بحلول الغروب، يمكن لنا رصده ونقول إن غدا هو أول أيام رمضان، وإن لم يحدث فيقال إن غدا هو المتمم لشعبان، وبعد غد هو أول يوم في رمضان، وهذا شيء يمكن توقعه وحسابه عبر طرق عدة لكننا سنختار أبسطها، وهي أنه يمكن لنا رؤية القمر بعد الغروب -فقط- إن كان الفارق بين لحظة ميلاد القمر ولحظة الغروب التالي أكبر من 14 ساعة، فإذا ولد القمر مثلا فجر الأربعاء في الساعة 03:00 فمن الممكن بسهولة رؤيته بعد غروب شمس الخميس الساعة 06:00 مثلا، لأن الفارق هنا هو 15 ساعة كاملة.

رؤية هلال رمضان

الآن دعنا نتأمل ما حدث في 15 مايو/أيار 2018، لقد ولد القمر في تمام الساعة 01:48 ظهرا بتوقيت مصر، بالتالي لم يكن كافيا أبدا أن يتحرك بعيدا عن الشمس في الغروب التالي، الساعة 06:41 مساء، بحيث يمكن أن نراه بأعيننا، لذلك أُعلن رسميا، في كل دول الوطن العربي التي واجهت الظروف نفسها مع اختلافات طفيفة، أننا لم نمسك بالهلال، بالتالي كان يوم الأربعاء متمما لشعبان، لكن القمر ما زال يبتعد عن الشمس ساعة بعد ساعة، وبحلول غروب يوم الأربعاء كان قد أتم أكثر من يوم في دورته، ما يعني أنه سيغرب بعد الشمس بنحو 50 دقيقة، وهو ما تسبب في أن رآه الناس واضحا يوم الأربعاء، فقد مكث في السماء بعد الغروب لفترة طويلة مناسبة، والفكرة ببساطة أن تحديد بداية الشهر الهجري، في العالم الإسلامي، يتأسس على فكرة “الرؤية”، رغم أن القمر الجديد قد ولد بالفعل في الثلاثاء، لكن الناس قد صامت الخميس.

هنا جاء أول غروب الشمس في أول يوم رمضان بعد أكثر من يومين من لحظة ميلاد القمر، لذلك كان هلال الأول من رمضان مضيئا بقيمة نحو 7% كاملة من سطحه، وتزداد إضاءة القمر بقدر طفيف كل يوم، في ثالث أيام رمضان مثلا كانت نحو 14%، ويظل هذا التزايد مستمرا حتّى البدر، لكن دعنا هنا نوضح نقطة غاية في الأهمية ربما لا يدركها الكثيرون، وهي أن إضاءة القمر لا تزيد بشكل منتظم يوميا7، لكنها تزيد يوميا بنسب كبيرة حول التربيعين (حول 10% لليوم الواحد) وتنخفض حول البدر (حول 3% فقط لليوم الواحد)، الآن نتأمل الأيام الثلاثة 27، 28، 29 مايو/أيار 2018.

سر المشكلة

في الأول منهم كانت إضاءة القمر 96.7%، في الثاني كانت الزيادة طفيفة، أضبحت إضاءة سطحه 99.3%، ثم اليوم الثالث، البدر الحقيقي الذي سيولد فلكيا في تمام الساعة 04:20 مساء بتوقيت مصر وسنراه بعد الغروب بنسبة إضاءة 99.9%، والفكرة بكل بساطة هي أنه حتّى قبل يوم 27 مايو/أيار 2018، كان القمر تخطى حاجز الـ90% إضاءة من سطحه بالفعل، وهو ما أعطى الناس تصورا أن ما رصدوه وقاموا بتصويره في يومي 27 و28 مايو/أيار 2018 هو “طور البدر” لشدة إضاءته، خاصة وأن كاميرات الهواتف النقالة لا توضح تفاصيل القمر أو نقص حجمه الدقيق وفقط تلتقط دائرة من النور.

كل ما حدث إذن هو أن القمر، بإضاءته الشديدة في اليومين السابقين للبدر (بداية من 11 رمضان)، قد فعّل الشك عند البعض، الذين رأوا الهلال قبل رمضان بيوم واضحا فتصوروا بالأساس أن رمضان بدأ متأخرا، أضف إلى ذلك نقطة مهمة، وهي أن بدر رمضان اكتمل مساء يوم 13 رمضان وليس 14 رمضان، لأن ميلاد القمر بالأساس كان قد بدأ قبل أول يوم رمضان بفارق كبير، ما جعل بدره قبل منتصف الشهر الهجري، وذلك هو سبب كل حالة الجدل التي انتشرت في وسائل التواصل، وهو ما يشير أيضا إلى أن رمضان هذا العام لن يتم 30 يوما، بل سينتهي عند 29 يوما.

الآن، دعنا قبل الانتهاء من رحلتنا القمرية نوضح نقطتين، الأولى أن تعمدنا التبسيط قد منعنا من ذكر الكثير من التفاصيل المؤثرة والمهمة حول تلك الموضوعات الفلكية، لكنه أعطى الفكرة الرئيسية بوضوح تام، وهذا هو الهدف، وثانيها هو أن كل ما ذُكِر في التقرير هو أمر يمكن لك اختباره بسهولة عبر زيارة أي من المنصات التي تعطي بيانات شروق وغروب ومواعيد أطوار القمر، فيمكن مثلا أن تقصد8 “Timeanddate” أو موقع ناسا9 وتختار مدينتك ثم تتعرف إلى كل البيانات الخاصة بالشمس والقمر، أو يمكن أن تقوم بتحميل برنامج10 “Stellarium” المجاني على حاسوبك وتتأمل تطور أطوار القمر كل يوم، كذلك تطور إضاءة مساحة سطح القمر يوما بعد يوم.

على كل الأحوال، يمكن القول إن أحد الأسباب الرئيسية في كل هذا الجدل هو أننا، هنا في الوطن العربي، وفي كل العالم، نمر بفترة من تاريخنا يضرب الشك فيها كل شيء تقريبا، حيث تتساقط الأنظمة كما تتساقط شخصيات اعتبرها الناس دائما أقرب إلى التقديس، لهذا السبب فقد الناس الثقة في “المنظومة” كفكرة، فأصبحوا أكثر قابلية لتصديق أي تصريح يخرج عنها، ما يدفع الكثيرين دائما إلى التحيز إدراكيا تجاه تصديق أي ادعاءات تقول إن المنظومة خاطئة، أو أن هناك مؤامرة ما، وأن أحدهم يخفي عنّا شيئا، ويضع خطة من أجل ذلك، بينما ذلك ليس صحيحا.

0

تقييم المستخدمون: 5 ( 1 أصوات)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *