#خطبة_الجمعة
#الشيخ_محمد_أبو_النصر
تجديد الإيمان
والعشر الأواخر من رمضان
🕌 أحد مساجد ريف حلب المحرر.
⏱ المدة: دقيقة.
التاريخ: 16/رمضان/1439هـ
الموافق: 1/حزيران/2018م
🔴الأفكار الرئيسة في الخطبة الأولى:
1️⃣ الإيمان قبل العمل وهو الزاد للعمل.
2️⃣ الإيمانُ يضعفُ ويهتز.
3️⃣ جدِّدوا إيمانكم.
4️⃣ مواسم الطاعات فرصة لتجديد الإيمان.
5️⃣ وها قد انتصف رمضان.
🔴الأفكار الرئيسة في الخطبة االثانية:
6️⃣ حال النبي مع العشر الأواخِر من رمضان.
7️⃣ ليلة القدر ودُعاؤها.
8️⃣ سُنَّة الاعتكاف وهيئته.
9️⃣ غاية الاعتكاف الحقيقي والفهم الخاطئ!!
🔟 وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ بشَيءٍ أَحَبَّ إلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيه.
لتحميل الخطبة كتابيا بصيغة PDF
* ملاحظة: ما بين معكوفتين [ ] فهو شرح مُدرج في سياق ذِكرِ الدليل.
الخطبة الأولى:
إنَّ الحمدَ لله، نحمدُه ونستعينُه ونستهديه ونستغفِرُه، ونعوذُ باللهِ مِن شرورِ أنفُسِنا وسيئاتِ أعمَالنا، مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا،
وأشهد أنْ لا إله إلا اللهُ وحده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ نبيَّنا محمدًا عبْدُه ورسولُه، وصفيُّه وخليلُه، أرسله ربُّه بالهدى ودين الحقِّ ليُظهره على الدين كلِّه ولو كرِه المُشرِكون، فصلواتُ ربِّي وسلامه عليه وعلى آل بيته الطيِّبِين الطاهِرين، وأصحابِه الغُرِّ المُحجَّلين، ومن سار على دربِهم واهتدى بِهُداهم إلى يوم الدين،
أمّا بعد إخوة الإيمان، يقول الله تعالى وهو أحكَمُ القائلين: ((إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)) [البقرة:277]. ويقول عزَّ من قائل: ((إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ)) [يونس:9].
ويقول تبارك وتعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا * خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا)) [الكهف: 107-108].
لو أردنا – أيها الأحبَّة – أن نُحصي ونَعُدَّ ونذكر، لوجدنا عشرات الآيات الكريمة في كتاب الله تعالى، قرَن اللهُ فيها الإيمان بالعمل الصالح، فقدَّم الإيمان وأخَّر العمل، فبغيرِ الإيمان لا يُقبل العملُ ولا يُرتضى، ليس هذا فحسب، بل بغير الإيمان يفقِد الإنسان القوة النفسية والإرادة القلبية والعزيمة القوية للقيام بالأعمال الصالحة المرْضِيَّة.
الإيمان، وما أدراك ما الإيمان؟ الإيمان هو تِلك الجذوة المشتعلة في قلوبِ المؤمنين، هو ذاك الوَقودُ الذي يُعينهم على الخيرات وعلى الطاعات، يُعينُهم على الصبر في المدلهِمَّات والثبات عند المطبَّات، الإيمان – أيُّها السادة – به تسمو أرواح المؤمنين، وتطمئن نفوس العارفين، فترى منهم الثبات والتفاؤل والشجاعة والإقدام؛ يتفاءلون بالمستقبل فالعاقبة للمتقين، يثقون بنصر الله، وكان حقًّا علينا نصر المؤمنين، يُقْدِمون ولا يهابون، يُشمِّرون ولا يتكاسلون… وما هذا كلُّه إلا من ثمرات إيمانهم الذي عمر قلوبهم بما يُرضي الله تعالى.
لذلك – أيها السادة – كان أوَّل زاد المؤمنين اليقين الثابت والإيمان الراسخ بالله ربِّ العالمين.
ولأن الإيمان – أيَّها الأحبَّة- يقوى بالطاعة ويضعُف بالمعصية، كانت العبادات وسيلةً لتقوية الإيمان ولترسيخه في القلوب، فبذكر الله والقرآن والصلاةِ والصيام والقيام والجهادِ والإحسان يقوى الإيمان، وبغير ذلك يضعفُ ويهتز.
ولأنه كما أسلفنا العُدَّة في الشدة والرخاء، فقد كان شأن النبيِّ – صلَّى الله عليهِ وسلَّم- أن يعتني دائما ببناء الإيمان وتقويته في قلوب الصحابة ليكونوا أهلا لحمل رسالة الإسلام.
النبيِّ – صلَّى الله عليهِ وسلَّم- طيلة بعثته الشريفة كان يعتني ببناء الإيمان، وأولَ بعثته كان متفرِّغًا لذلك، يوم كان بمكَّة لبث بضع عشر من السنين وهو يجتهد على إيمان الصحابة الكرام، وهو يربيهم ويربيه ربُّه بما يقوِّي عزيمته هو أيضًا، فبالعبادات والصالحات تكون تقويةُ الإيمان لكي تكون أيُّها المُسلم قادرًا على حمل الرسالة والثبات أمام المُدلهِمَّاتِ والخطوب…
مثالُ ذلِك: قيام الليل، فقد كان أوَّل البعثةِ الشريفة فرضًا على النبي –صلَّى الله عليهِ وسلَّم- وعلى صحابته الكرام، فلما قوي إيمانُهم واشتدَّ في الإسلامِ عودُهم، نُسِخ ذلك فبقي قيام الليل فرضًا على رسول الله وغدا سُنَّةً مستحبَّةً نفلًا مندوبًا إليه عند من دونَ النبيّ من الصحابة والمؤمنين، قال تعالى: ((يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4)
إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9))) [المزمِّل: 1-9].
إن رُمت المدد والعون في النهار فلا بدَّ من أن تشحن قلبك بالمدد والطاقة الإيمانية ليلًا، لكي تكون أهلا لحمل القول الثقيل وللثبات عليه…
هكذا كان شأن النبي – صلَّى الله عليهِ وسلَّم – وهكذا كان شأن الصحابة الكرام، وهكذا هو حال من تبعهم بإحسانٍ في كل زمانٍ ومكان، ليكون أهلا لحمل القول الثقيل، لحملِ الدعوة الربَّانيَّة، ليكون أهلا لرفعِ راية الإسلام وللصبر على مشقات الطريق وما فيه من فِتن.
الفتن بأنواعِها المختلفة؛ فتن السرَّاء وفِتن الضرَّاء، فتن السرَّاء: فتن المال والسلطة والجاه، يُفتن بها ضعيف الإيمان، وكذلِك فِتنُ الضرَّاء: الجوع والفقر والقهر والمِحنُ والقتلُ والقِتالُ والتضحيات والآلام والدماء… يُفتن بها أيضًا ضعيفُ الإيمان، ولهذا كان شأن المؤمنين وكان التوجيه الربَّانيُّ والنبويُّ لهم بأن يسعوا لتقوية إيمانهم وتجديده وفي هذا يقول رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«إِنَّ الْإِيمَانَ لَيَخْلَقُ [أي لَيبلى] فِي جَوْفِ أَحَدِكُمْ كَمَا يَخْلَقُ الثَّوْبُ الْخَلِقُ، [أي كما يبلى الثوب البالي بعد الاستعمال] فَاسْأَلُوا اللَّهَ أَنْ يُجَدِّدَ الْإِيمَانَ فِي قُلُوبِكُمْ».
[حديث حسن أخرجه الطبراني في الكبير والحاكِم في المُستدرك]
نعم أيها السادة، في هذا الحديث الحسن الذي أخرجه الطبراني في الكبير والحاكِم في المُستدرك، يُنبِّهنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى ضرورة تجديد الإيمان، فبانشغالنا في الدنيا وبمعاملتنا للناس يضعُف إيماننا أو يُصاب مِنه… بسماعنا للمنافقين والمرجفين، أحيانا يهتزُّ إيماننا أو تضعُف نفوسنا، لذلك وجب تفقُّده وإصلاحه وتقويته وتجديده دائمًا، فاسألوا الله أن يُجدد إيمانكم، وجددوه بما ذكرنا من صلاة وصيام ورباطٍ وقيامٍ وذكرٍ وتلاوةٍ للقرآنِ واغتنامٍ لمواسم الطاعات التي كتبها الله تعالى لعباده فُرصةً ليتعاونوا على تجديد إيمانهم…
وها قد انتصف موسِمٌ من أعظمِ تلك المواسِم، انتصف شهرُ رمضان المبارك، زرَعَ فيه من زرَع وخاب وخسِر فيه من قعَد:
تنصَّفَ الشهر والهفاه وانهدَما …. واختُصَّ بالفوزِ بالجناتِ من خدما
وأصبح الغافل المسكينُ منكسِرا …. مثلي فيا ويحه يا عُظمَ ما حُرمَ
من فاته الزرع في وقت البَذار فما …. تراه يحصُد إلا الهمَّ والندما
طوبى لمن كانت التقوى بضاعتَه … في شهره وبحبلِ الله معتصما
طوبى لمن اغتنم في أول الشهر الفضيل واستمرَّ ثابتًا إلى آخِره، و المحروم المسكين من أدرك رمضان فلم يغفر له فأبعده الله.
المحروم – أيها الأحبَّة – من لا يتعظ بغياب إخوانه تحت أطباق الثرى وقد كانوا يتمنَّون أن يدركوا رمضان معنا فتوفاهم الله وأبقانا، فلننظر كيف نعمل فيما بقي من أعمارنا…
المحروم –أيَّها الإخوة – من انصرفت عنه هذه الليالي وهو مشغول بالمعاصي والآثام، مخدوعٌ بالآمال والأحلام، فيا عظيم حسرته ويا شِدَّة ندامته، ويا عظيم خسارته… اللهم لا تجعلنا من الخاسرين ولا تكتبنا من النادمين، واجعلنا اللهم من المقبولين، واغفر تقصيرنا يا غفورُ يا رحيم… أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم فاستغفِروه فيا فوز المستغفرين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وكفى، وصلاةً وسلامًا على عبده الذي اصطفى، عباد الله، خيرُ الوصايا وصيّةُ ربِّ البرايا: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ) [النساء:131]، فاتقوا الله عباد الله، فبتقوى الله العِصمة من الفتن، والسلامة من المِحَن… أمَّا بعد أيها الأحبَّة، ونحن نتحدَّث عن تجديد الإيمان، ونحن نتحدَّث عن اغتنام مواسم الطاعات، ونحن نتحدَّث عن انقضاء النصف الأول من شهر رمضان، هنا وجب أن نُذكِّر بفُرصةٌ لا تفوَّت لمن قصَّر في أول الشهر ليستدرِك فيما بقي، ولمن أحسن في أولِه ليزيد في إحسانه، فرصةٌ قائمةٌ لا تعوَّض بموسمٍ من أخص مواسِم هذا الشهر الفضيل، ألا وهي العشر الأواخِر من رمضان، وفي صحيح الإمام مسلم، عن أمِّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها: ” أنَّ رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم – كان يجتهد في العشر الأواخر من رمضان ما لا يجتهد في غيرها” وفي البخاري عنها – رضي الله عنها وعن أبيها – قَالَتْ: “كَانَ النَّبِيُّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ، وَأَحْيَا لَيْلَهُ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ”.
هكذا كان حال النبيّ في العشر الأواخِر من رمضان، وهو الذي غُفِر له ما تقدَّم مِن ذنبِه وما تأخَّر، إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ، وَأَحْيَا لَيْلَهُ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ.
(شدَّ مئزره): أي شمَّر للعبادة وتفرَّغ لها، باذلًا جهده فيها، مغتنمًا هذه الليالي المباركة، وقيل بأنُّها كنايةٌ عن اعتزال النساء للانشغال بالاعتكاف في المسجِد، (وأحيا ليله): أحيا ليله بالقرآن أحيا ليله بذِكر الله والقيام والصلاة فهكذا يكون إحياء الليالي الفضيلة، (وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ) ليشركهم معه في تلك القُربات والطاعات، فيأتمُّون به في صلاته ويتعلَّمون ويقرؤون معه القرآن الكريم، ليربيهم وليعوِّدَهُم على ما يرضي الله سبحانه وتعالى، فيكون عملهم من بعده في صحيفة حسناته بعد وفاته، فأين المتأسُّون برسول الله – صلّى الله عليه وسلّم – ؟ أين المشمِّرون لاغتنام العشرِ الأواخِر؟ أين الذين جعلوا النبيَّ قدوتهم، فتراهم يجتهدون باغتنام مواسم الله، جامعين أبناءهم وأهل بيتهم ليُشرِكوهم معهم في الأجر… في هذه العشر الفضيلة، في العشرِ الأواخِر مِن رمضان، تلك التي تبدأ بغروب يوم العشرين من رمضان، وقد نبهنا سابقًا بأن الليلة الشرعية تسبق اليوم وتبدأ بغروب الشمس.
فبغروب شمس اليوم العشرين تبدأُ ليلة الواحِد والعشرين من رمضان وتبدأ العشرُ الفضيلة
تبدأ العشر التي كان يُشمِّر لها رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم –.
تبدأ العشر التي فيها ليلةٌ خيرٌ من ألف شهر، ليلةٌ قال الله عنها:
((إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5))) [سورة القدر].
متى هذه الليلة المباركة؟ في البخاريِّ أنَّ رسولَ اللهِ – صلَّى الله عليه وسلَّم – قَالَ: (( تَحَرَّوْا لَيْلَةَ القَدْرِ في الوَتْرِ مِنَ العَشْرِ الأوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ )) أي في الليالي الفرديَّة من العشر الأواخِر تحرَّوا ليلة القدر التي لم تحدد في أي ليلة من ليالي العشر ليكون ذلك دافعا لك للاجتهاد في العشر الأواخِر جميعها.
نعم أيها الأحبَّة اجتهدوا في العشر وشمِّروا لاغتنام موسمٍ قد لا نحيا إلى قابِله. الصحب الكرام – رضي الله عنهم وأرضاهم – كانوا من أحرصِ النَّاسِ على اغتنام مواسم الرحمات، والليالي الفاضلات، فقد كانوا كثيرًا ما كانوا يسألون عنها وعن الطريقة المُثلى لاغتنامها، وفي هذا روى الترمذي وابن ماجة بإسناد صحيح عن عائشة الصدِّيقة رضي الله عنها قالت: قُلت “يا رسول الله أرأيت إن علمت أي ليلةٍ ليلةُ القدر، ما أقول فيها ؟” [ ما هو خير دعاءٍ أدعو به ربِّي في هذه الليلة الفضيلة]، قال [– روحي فداه-]: ” قولي اللهم إنَّك عفو تحب العفو فاعف عني”.
سؤالٌ من حريصةٍ تريد أن تسأل عن خير ما تدعو به ربَّها، فأجابه النبي: قولي اللهم إنَّك عفو تحب العفو فاعف عني، اللهم إنَّك عفو تحبُّ العفو، فاعف عنَّا ولا تكتبنا من المحرومين في هذه الأيام الفضيلة.
هذه الأيام الفضيلة التي كان رسول الله –صلّى الله عليه وسلَّم– حريصا على اغتنام كل لحظةٍ فيها ولهذا سنَّ لنا روحي فداه سُنّة الاعتكاف في المسجد في العشر الأواخِر من رمضان، ففي البخاري ومسلم، عن عائشة رَضِيَ اللهُ عنها:
“أنَّ النبيَّ – صلّى الله عليه وسلَّم – كَانَ يَعْتَكِفُ العَشْرَ الأوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ، حَتَّى تَوَفَّاهُ اللهُ تَعَالَى، ثُمَّ اعْتَكَفَ أزْوَاجُهُ مِنْ بَعْدِهِ”.
وساوس الشياطين وضوضاء الحياة والبعدُ عن السكينة والافتقار للطمأنينة… أنت بحاجةٍ لفترةٍ تعود فيها لنفسِك، تعود فيها لربِّك، تعيشُ فيها شيئًا من الراحة للبال والسكينةِ للروح والطُمأنينة للنفس… سنَّ لك النبيُّ – صلّى الله عليه وسلَّم – سُنَّة الاعتكاف في العشرِ الأواخِر.
يلتزِمُ المُعتكِفُ المسجِد متفرّغًا عن أعمال الدنيا إلى طاعة الله بالعبادة وحدها، ينشغِل بالصلاة والصيام والأذكارِ والقرآن والدعاء ….
والاعتكاف – أيها الأحبَّة – يبدأ من غروب شمس يوم العشرين من رمضان، فيدخل الإنسان المسجد بنيَّة الاعتكاف ولا يغادِر المسجد حتى غروب شمس آخر يوم من أيام الشهر الفضيل… يُكثِرُ في اعتكافه من أنواع القربات والنوافل والطاعات ولا ينشغِل بأمور الدنيا؛ (لا يبيع ولا يشتري ولا يخرج من المسجد إلَّا لما لابدَّ له منه كالخروج إلى الخلاء وما شابه إذا لم يكن هناك مكانٌ مخصصٌ…
ولا بأس للمعتكِف بشيءٍ من الحديث المباح أحياناً للتنشط للعبادة، ولو كان ذلك في مدارسة القرآن وتفسيره وفي طلب العلم فهو أفضل له وأكرم، لكي لا يكون كبعض من رأينا ممن يأخذون مظاهر العبادات وينسون مضمونها، يتوهمون أن الاعتكاف فقط بالمُكثِ في المسجد، فترى بعضهم يحبسون أنفسهم في المسجد مُتشاغلين بكلام الدنيا، بل بالغيبة والنميمة أحيانا، ملتهين بالجوالات وألعابها واتصالاتها ومكالماتِها … فأيُ اعتكافٍ هذا ؟!!
أمثال أولئك – أيُّها الأحبَّة – لم يفقهوا الغاية من الاعتكاف، لم يفهموا دين الله فهما صحيحًا.
الغاية من الاعتكاف أن تعيش شيئا من الراحة، أن تعيش شيئًا من السكينة والطمأنينة في قلبك، أن تعود إلى نفسِك وربِّك، أن تعمُر ما بينك وبين الله، أن تُطهِّر لسانَك عن غيرِ ذِكرِ الله…
ومثل أولئك الذين لم يفقهوا دين الله بشكلٍ صحيح، من رأينا وقد تركوا ما افترض الله عليهم من خدمة العجائز من الآباء والأمَّهات، والرباط أمام العدو الكافِر على الجبهات، يترُكون ما افترض الله عليهم بحجَّة الاعتكاف فيُضيعون فرضًا لأجل نفلٍ، وفي الحديث القدسي الذي أخرجه الإمام البخاري، يقول الله تعالى:
((… وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدي بشَيءٍ أَحَبَّ إلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقرَّبُ إلَيَّ بالنَّوافِلِ حَتَّى أحِبَّهُ، فَإذَا أَحبَبتُهُ كُنْتُ سَمعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، ويَدَهُ الَّتي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ)).
من تقرَّب إلى الله بالفرائض التي افترضها الله، وزاد على ذلِك بالنوافِل رقى درجة المحبوبين، رقى درجة من كان الله هاديه في سمعه وبصره ويده ورِجله…
اللهم إنا نسألك أن نكون مِن أحبابِك، نسألك الله أن تعيننا على الفروض والنوافل، نسألُك اللهم أن نكون من أحبابِك وأوليائك، نسألُك اللهم حُبَّك وحُبَّ من يُحبُّك وحبَّ كلِّ عمل صالح يقرِّبُنا إلى حُبِّك، نسألك حبَّ الخيرات وفِعل الطاعات واجتناب المنكرات وأن تغفر لنا وترحمنا، وإذا أردت بقومٍ فتنةً فتوفَّنا إليك غير خزايا ولا مفتونين…. إنِّي داعٍ فأمِّنوا.