#خطبة_الجمعة
#الشيخ_محمد_أبو_النصر
ثورتنا ثورة أخلاق
🕌 أحد مساجد ريف حلب المحرر.
⏱ المدة: 42 دقيقة.
التاريخ: 28/جمادى الثاني/1439هـ
الموافق: 16/آذار/2018م
🔴الأفكار الرئيسة في الخطبة الأولى:
1️⃣ الرسالة الأخلاقية للإسلام حتى في العبادات الصرفة.
2️⃣ الثورة السورية ثورة أخلاقٍ وحُريَّة وليست ثورة جياع.
3️⃣ نماذج مخزية ممن احتوينا معنا بحجّة (كلب يعوي معك ولا يعوي عليك)
4️⃣ الأسس التي تضمن تماسك المجتمعات والدول الغربية على ما فيها من انحلال أخلاقي، وقد ذُكرت في حديثٍ خطير.
5️⃣ السبيل الوحيد الذي يمكن أن نغلب به أعداءنا.
🔴الأفكار الرئيسة في الخطبة االثانية:
6️⃣ سنَّةُ التدافُع.
7️⃣ وكان حقًّا علينا نصر المؤمنين، هل نحن منهم؟!!
8️⃣ ثورةٌ وصلتك بالمجان، وغيرُك بذل فيها ماله وأولاده وروحه، فلا تضيِّعها.
9️⃣ البشارة بفرج الله القريب.
لتحميل الخطبة كتابيا بصيغة PDF
ملاحظة: ما بين معكوفتين [ ] فهو شرح مُدرج في سياق ذِكرِ الدليل.
الخطبة الأولى
الحمد لله الكريمِ المجيبِ لكل سائل؛ التائبُ على من تاب فليس بينه وبين العباد حائل، جعلَ ما على الأرض زينةً لها، وكلُّ نعيمٍ فيها لا محالَة زائل، من أسلم وجهه لله فذلك الكيِّسُ العاقِل، ومن استسلم لهواه فذاك الضالُّ الغافِل، نحمده – تبارك وتعالى- كما أثنى على نفسِه، فالحمد من عباده المتقين واصِل، ونعوذُ بنورِ وجهه الكريم من الفتن في عاجِل أمرنا والآجِل، وأشهد أن لا إله إلا الله المنزَّه عن الشريك والشبيه، القائمُ على كلِّ حاضرٍ وآجل، من يجيب المضطر إذا دعاه وربُّنا لا تستعصي على قُدرته المسائل، من سخَّر لنا جوارِحنا ومَن طوَّع لنا الأعضاءَ والمفاصِل، من لنا إذا انقضى الشباب وتقطَّعت بنا الأسباب والوسائل!! هو الله الإله الحقُّ لا إله إلا هو وكلُّ ما خَلا الله باطل.
وأشهد أن نبيَّنا محمدًا عبد الله ورسوله لولاه لانعدم الهدى وما كان في الناس عالم أو فاضل، سَل رمال مكة عن عفافِه، وسَلْ منها العوالي والأسافل، سَل الأعداء عن خُلقِه، وسَل عن حِلمه الأراذل، سل الحُكماء إذا تكلم هو فهل هناك مقالةٌ لقائل، سل الأصحاب عن دفاعه عن الحقِّ وكيف كان يناضل، سَل راية التوحيد من رفعها فهدَّمت للشِرك المعاقِل، سَل العدل كيف تحقق بشرعِه فسارت بأمانه الظعائن والقوافل، سَلْ الدنيا هل زانها قبله أو بعده مماثل. اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، وقنا بحبه شرَّ النوازِل، وارزقنا شفاعته عند الخطوبِ وفى كلِّ المنازل، واجعلنا ممن يلتزمون بما بُعِث به فهو الذي قال عنه ربُّنا تبارك وتعالى وعزَّ مِن قائل: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) [الجمعة:2]، وقد صحّ في البخاريِّ عنه -روحي فداه- أنَّه القائل: “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”.
قال المُناوي: “أي أُرسلت لأجل أن أكمل الأخلاق بعد ما كانت ناقصة، وأجمعها بعد التفرقة”.
إخوة الإيمان والعقيدة: اخترت الحديث معكم اليوم عن الأخلاق المحمَّديَّة وثورتنا اليوم تُتِمُّ عامها السابع وتبدأ عامها الثامن، اخترت الحديث عن الأخلاق المحمَّديَّة والتوجيهات النبويَّة بهذا الخصوص، فرسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم- هو القائل: (( أكْمَلُ المُؤمنينَ إيمَاناً أحسَنُهُمْ خُلُقاً…)) [رواه الترمذي، وقال: “حديث حسن صحيح”]. وهو القائل – روحي فداه -: ” ِإنَّ أَحَبَّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبَكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَحَاسِنُكُمْ أَخْلاقًا، الْمُوَطَّئُونَ أَكْنَافًا، الَّذِينَ يَأْلَفُونَ وَيُؤْلَفُونَ..”. [رواه الطبرانيُّ في مكارم الأخلاق والبيهقي في شُعب الإيمان] ،
أقربكم من النبيِّ – صلَّى الله عليه وسلَّم- مجلِسًا يوم القيامة ليس أكثركم صلاةً ولا أكثركم صيامًا ولا صدقةً ، بل أَحَاسِنُكُمْ أَخْلاقًا، الْمُوَطَّئُونَ أَكْنَافًا، الَّذِينَ يَأْلَفُونَ وَيُؤْلَفُونَ، يُلينون الجانِبَ للمؤمنين فيألفُهم الناس ويُحبُّونهم، يُحِبون الخير للناس والناسُ يُحِبُّونهم. وهو القائلُ – رزقنا الله شفاعته – : « إنَّ المُؤْمِنَ لَيُدْرِكُ بحُسْنِ خُلُقِه دَرَجَةَ الصَّائِمِ القَائِمِ » [رواه أَبُو داود]… وهو القائل – صلَّى الله عليه وسلَّم – : « مَا مِنْ شَيْءٍ أَثْقَلُ فِي مِيزانِ المؤمِنِ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنْ خُلُقٍ حَسَنٍ » [صحيح أخرجه أبو داود والتِّرمذِي]، وهو الذي قال ضامِنًا: « أنَا زَعِيمٌ ببَيتٍ في أعلَى الجَنَّةِ لِمَنْ حَسُنَ خُلُقُهُ» [حديث صحيح رواه أَبُو داود].
إخوة الإيمان والعقيدة: عندما نتحدَّث عن رسالة الإسلام الأخلاقية وأهدافه الإجتماعيَّة، لا بدَّ أن نتذاكر وأن نعي بأنه حتى العبادات المحضة التي أُمِرنا بها في الإسلام كان من أهمِّ أهدافها ومِن أخصِّ حِكم تشريعها، تهذيبُ الأخلاق وتزكيتُها، وترسيخُ أهمِّ القيم والأخلاق العامَّة لتكون قاسِمًا مشتركًا بين المسلمين.
العبادات في الإسلام بكلِّ صورها ليست طقوساً وشعائر مجردةً من المعنى والمضمون، بل إنَّ كل عبادة تحمل في جوهرها قيمةً أخلاقية يجِب أن تنعكسَ على سلوك المسلمِ المؤدي لهذه العبادة، وأن تتضح جلياً في شخصيته وتعاملاته…
الصلاة أوَّلُ العبادات؛ ((إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ)) [العنكبوت:45] ، ولا صلاة لمن لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر.
وثانيها الزكاة، وفيها الحثُّ على الجود والكرم وإغاثِة المحتاجين، ((خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا)) [التوبة/103]، تطهِّر نفوسهم مِن أدران الشحِّ والبخل والتقتير؛ وتنشر بين الناس التعاون والتكافل والمحبة.
وثالثها الصوم؛ وما فيه مِن تعوُّد الصبرِ والإحساس بمشاعر العطشى والجائعين، والصفح عن المخطئين، “فإنْ سَابَّهُ أحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ: إنِّي صَائِمٌ” [البخاري ومسلمِ].
ورابعها الحج؛ وفيه الاجتماع والشورى وفيه التقاءُ الأمَّة، وفيه التعوُّد على الصبر وعلى تحمُّل المشاق والزحام، وفيه تعلُّم تقبُّل الناس على اختلاف طباعهم وألوانهم وبيئاتِهم وقومياتهم وأعراقِهم، وفيه النهي عن الرفث والفسوق ((الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ)) [البقرة/197].
كلُّ العبادات في الإسلام – أيها السادة- أتت، ومِن حِكمها ترسيخُ رسالةٍ أخلاقيَّةٍ سامية، كلُّ العبادات – أيُّها المُسلِم – إن تمسَّكت بظاهرها وفقدتَّ أثرها فأنت على خطرٍ عظيم، تعرِفه عندما تسمع الحديثَ الصحيح الذي أخرجه أحمدُ وابنُ حِبَّان عن أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: أتى رَجُلٌ فقال: “يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ فُلَانَةَ يُذْكَرُ مِنْ كَثْرَةِ صَلَاتِهَا وَصِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا غَيْرَ أَنَّهَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا” قَالَ: “هِيَ فِي النَّارِ”. [ ذكر له صلاتها وصيامها، ولكنها تؤذي جيرانها فقط بلسانها؛ لا بسلاحها ولا بيدها، فقط تؤذيهم بلسانها، فقال – روحي فداه -: هي في النَّار!!
قَالَ: “يَا رَسُولَ اللَّهِ فَإِنَّ فُلَانَةَ […يذكُر امرأةً أخرى..] يُذْكَرُ مِنْ قِلَّةِ صِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا وَصَلَاتِهَا [ تأتي الفرائض وما عندها من كثير نوافل…ولكنَّها …] وَإِنَّهَا تَصَدَّقُ بِالْأَثْوَارِ مِنْ الْأَقِطِ وَلَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا [تتصدَّقُ بالطعامِ الكثير ولا تؤذي جيرانها بلسانها …]“، قَالَ: “هِيَ فِي الْجَنَّةِ”.
تخيَّل معي، صائمةٌ مصلِّيةٌ متصدِّقة، تؤذي جيرانها فقط بلسانها، قال عنها النبي النبي: “هي في النار” … وتلك التي ما عندها كثير نوافل ولكنَّها تُحسن لجيرانها، قال عنها: “هي في النار” … لماذا؟؟
لأن الأولى لم تنفعها صلاتها وصدقتها وصيامها لما ساءت أخلاقها وآذت جيرانها، ثمرة العبادات لم تظهر عندها… عبادتك وعقيدتك بينك وبين ربِّك، ومِصداقُها للمؤمنين ما ظهرَ مِن أخلاقِك وسلوكِك وتعامُلِك… فالمؤمن الذي آمَن بالله حقًّا وعلِم أنَّ الله لا يُضيعُ أجرَ من أحسن عملًا، فهذا سيصبِر على أذى الناس وسيتحمَّلُ في سبيل دعوة الحق، وسيُحسِنُ إلى إخوانه ولو أساؤوا له.
نعم أيها السادة كلُّ هذه الأحاديثِ الصحيحة سقتها لأؤكِّد رسالة الإسلام الأخلاقية، سقتها لكم اليوم بمناسبة الذكرى السنوية للثورة السورية، ولعلَّ قائلا يقول، ولعلَّ سائلا يسأل: “ما وجه الارتباط والمعيَّة، لكي يُحدِّثنا الشيخ عن رسالة الإسلام الأخلاقيَّة بمناسبة الذكرى السنوية للثورة السورية”؟!!
مرَّةً أيها الأحبَّة كنت مع مجموعةٍ من الإخوة الحكماء العلماء، أردنا أن نتفكَّر بما يعيننا على الانتصار، أردنا أن نتفكَّر بما يميِّزنا عن أعدائنا؛ مزيةٌ يمكن أن ننافسهم فيها لتكون مفتاحًا لانتصارِنا عليهم، فكانت خلاصة ما وصلنا إليه في حوارنا، أننا لن نغلِب أعداءنا بكثرةِ عدد ولا عُدَّةٍ ولا عتادٍ ، فهم أعظمُ مِنا عددا وعُدَّةً وعتادًا ، لن نغلبهم بتحالفاتِنا، فحلفاؤهم أكثَرُ وأقو … لن نغلِبهم أيها السادة إلَّا إن هزمناهم وتميَّزنا عنهم في معركة الأخلاق.
هذه الثورة أيَّها الأحبَّة لمَّا قامت إنَّما كانت ثورةَ الأخلاق، كانت ثورةَ القِيمِ الراقِية والأخلاقِ المحمَّديَّة، كانت، ثورةُ الحقِّ على الباطِل، ثورة الصِدقِ على الكذِب، ثورة العِلم على الجهل، ثورة الحرِّية والكرامة على القيودِ والذلِّ والمهانة، ثورة الصِدق والصادقين على النفاق والمنافقين الذين مثَّلوا دور المقاومة والممانعة عشراتِ السنين، ثورةٌ على المنافقين، ثورةٌ على السارقين، ثورةٌ على المختلِسين والمُرتشين، ثورةٌ على الطائفيين الظالمين، ثورةٌ على الفسادِ والمفسدين، ثورة المظلومين المستضعفين المسلمين على من ذكرنا من ذوي الأخلاق السيئة الشنيعة والنفوسِ الخبيثة الدنيَّة… لم تكن ثورتُنا السورية ثورة الجياع والجائعين، بل لعلَّ كثيرًا منَّا كان وضعه المادي أفضَل حالًا قبل الثورة، لم تكن ثورَة الجياعِ أبدًا، كانت ثورة الأخلاقِ المُحمَّديَّة على الطُغمةِ الفاسِدة الفاشيَّة.
نعم أيَّها الأحبَّة، هذه الثورة في ذكراها السنويَّة، أقول لكم: لن تنتصر هذه الثورة إلّا إن عادت لمبررات قيامها، لن تنتصر هذه الثورة ما لم نثُر على أخلاقنا ونرتقي بها عن أعدائنا ونهزِمهم في معركتها، لن يؤازرنا الناس ويقفوا معنا وإلى صفِّنا ما لم يروا منّا أخلاقًا سامية تميِّزُنا عن أعدائنا، أمَّا إن كان لسان حال الناس ما هتفوا به ونطقته ألسنتهم يوم قالوا : ((يا للعار يا للعار … الشبيحة صارت ثوار)) ، ثوارٌ بأخلاق الشبيحة الفجَّار، ومجاهدين بصفات الأراذِل المنافقين، يتحدثون فيكذِبون ويُعاهِدون فيغدرون، يخونون ولا يُؤتمَنون، فحينها من أين لنا بالنصرِ؟!! وأنَّى للناس أن يقفوا معنا وفي صفِّنا؟!!
أيُّها الأحبَّة، هذه الثورةُ المباركة التي أُشعلت شرارتها بأمر الله على أيدي أطفالٍ لألَّى يكون لحزبٍ ولا جماعةٍ ولا لأحدٍ من الخلقِ مِنَّةٌ عليها، هذه الثورة لن ينتصِر من بقي قائما عليها، ما لم تعلوا بينناراية الأخلاق، ما لم يتمثَّلوا القيم الإسلاميَّة المحمَّديَّة، فبالأخلاقِ تنتصِر الأمم، وبالأخلاقِ تتماسك المجتمعات وبالأخلاق تستقِرُّ الدول… الأسرة والمجتمع والدولة لا تتماسك إلا إذا سادت فيها الأخلاق الحسنة.
وإِنَّمَـا الأُمَـمُ الأَخْـلاقُ مَا بَقِيَـتْ فَـإِنْ هُمُ ذَهَبَـتْ أَخْـلاقُهُمْ ذَهَبُـوا
صَـلاحُ أَمْـرِكَ لِلأَخْـلاقِ مَرْجِعُـهُ فَقَـوِّمِ النَّفْـسَ بِالأَخْـلاقِ تَسْتَقِـمِ
وقد جاء القرآن الكريم – أيها الأحبَّة – بمثل هذا المعنى عندما قال المولى تبارك وتعالى -: ﴿ وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا ﴾ [الإسراء: 16]، عندما يتصدَّرُ الفاسِدون المُفسِدون المتشبِّعون بالمال الحرام، يفسقون في المجتمع ولا يجدون رادِعًا لهم، تسوء الأخلاق، وينتشِرُ الفساد والإفساد، تكون النتيجة: فدمَّرناها تدميرًا.
لذلك أيُّها الأحبَّة عندما نتحدَّث عن الإسلام وعن رسالته الإصلاحيَّة، فنحن لا نتحدَّث فقط عن معتقدٍ بالقلب أو طقوسٍ تعبدية أو شكلية، بل نتحدَّث عن حقيقة ذلك وانعكاس ذلك، أخلاقًا سامية وقيمًا راقية، يُعظِّمها كلُّ البشر وأتى بها كلُّ الأنبياء من قبل نبيِّنا صلَّى الله عليه وسلَّم، تلك الأخلاق السامية التي كانت مفتاح دخولِ الأمم في دين الله أفواجًا.
لهذا لمَّا سأل النجاشي – رحمه الله – أصحاب النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – في الحبشة عن رسول الله وعن رسالته، ماذا كان جوابهم؟؟
انبرى لجوابه يومها، جعفر بن عبد المطَّلِب – رضي الله عنه وأرضاه – فجاوبه جوابًا لا تختلف على كرامته وحُسنِه كلُّ الأمم والمِلل، فقال: (( أَيُّهَا الْمَلِكُ كُنَّا قَوْمًا أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ نَعْبُدُ الْأَصْنَامَ وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ وَنَأْتِي الْفَوَاحِشَ وَنَقْطَعُ الْأَرْحَامَ وَنُسِيءُ الْجِوَارَ يَأْكُلُ الْقَوِيُّ مِنَّا الضَّعِيفَ، فَكُنَّا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْنَا رَسُولًا مِنَّا، نَعْرِفُ نَسَبَهُ وَصِدْقَهُ وَأَمَانَتَهُ وَعَفَافَهُ، فَدَعَانَا إِلَى اللَّهِ لِنُوَحِّدَهُ وَنَعْبُدَهُ وَنَخْلَعَ مَا كُنَّا نَعْبُدُ نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ الْحِجَارَةِ وَالْأَوْثَانِ، وَأَمَرَنَا بِصِدْقِ الْحَدِيثِ وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ وَصِلَةِ الرَّحِمِ وَحُسْنِ الْجِوَارِ وَالْكَفِّ عَنْ الْمَحَارِمِ وَالدِّمَاءِ وَنَهَانَا عَنْ الْفَوَاحِشِ وَقَوْلِ الزُّورِ وَأَكْلِ مَالَ الْيَتِيمِ وَقَذْفِ الْمُحْصَنَةِ…))
نعم أيها الأحبَّة، هكذا فرَّق جعفر بين أهل الجاهلية وأتباع النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – أهلِ الإسلام، لم يكتف بالحديث عن التوحيد، بل ذكر محاسِنَ تجذب الخلق إلى دين الله، تجذِبهم ولا تنفِّرهم…
ولو تمعّنَّا في كلام جعفر – رضي الله عنه وأرضاه – يا ترى نرى أنفسنا بأخلاق الجاهلية أم بأخلاق الإسلام؟
كنّا زمن الجاهليَّة نقطع الرحِم، كنا زمن الجاهليَّة نُسيء الجوار، كنا زمن الجاهليَّة يأكل القويُّ منا الضعيف… فيا ترى نحن الآن أخلاقنا أخلاق أهل الجاهليَّة أم أخلاق أهلِ الإسلام؟!!
نتحدَّث عن ظالمينا، وندَّعي أننا نفارِقُهم ونحارِبُهم، وأخلاق كثيرٍ منَّا لا تختلف عنهم، ورحم الله أحد مشايخي مرَّةً قال لي عن النصيريَّة، “وافق فسادهم هوى في أنفسِنا فغدا كثيرٌ منا مثلهم بل أشد سوءًا!!”
كثيرٌ من أولاد المحسوبين على أهل السنَّة هم اليوم في صفِّ الفاجِر الكافِر، ونحن من ندعي محاربتهم إلى يومنا هذا لم نتخلَّص من أثوابِ الجاهليَّة، لم نتخلَّص بعد مما عودونا عليه وعلمونا إياه مِن الأخلاقِ المشؤومة المذمومة التي نفَّرت الناس عنَّا، وفرَّقت جمعنا، وشتت كلمتنا، ومزَّقت صفَّنا، وأضعفتنا أمام أعدائنا… نتخلَّق بأخلاق الجاهليَّة ونطلب العون من ربِّ البريَّة ونُريد من عوام الناس المؤازرة والمعيَّة… أي سفهٍ هذا والعياذ بالله!!
أيّها السادة، لما نتحدَّث عن الأخلاق في معرض الحديث عن الثورات والدول فنحن نتحدَّث عن ميزانٍ فارِق ورقمٍ صعبٍ يؤثِّر في معادلة النصر.
أقِصُ لكم قِصَّةً جرت مع أحد إخواني، رجلٌ حكيمٌ عاقِل، يوم كُنَّا في أوج قوَّتِنا، كنَّا يومها ممتدين على مساحاتٍ شاسعة من هذه الأرض، وكنَّا نحن نحاصِر حلب فيما كان متبقِّيًا منها مع النظام، وكان بيننا وبين النظام معبر بستان القصر، وكان الفقراء والمساكين من تلك المناطِق يُخاطِرون بأرواحِهم ويقتلهم قنَّاصوا القصر البلدي التابعون للنظام، يخاطِرون ليشتروا بعض الطعام والشراب، وإذا بالسفهاء الذين كنا نحتويهم بحجَّة ((كلب يعوي معك ولا يعوي عليك))، كانوا يسيؤون لأولئك الناس، وينبري المشايخ والدعاة يُحذِّرون فلا يسمع منهم أحد، يُنبِّهون فلا يلتفت إليهم أحد، يقولون لهم هؤلاء أهلنا خرجنا لنحررهم فلا يأبهون …
المُهم، مرَّةً هذا الأخ الذي يروي لي القصَّة، وهو لا يملك حولا ولا قوة، قال مررت يوما فإذا بالحاجِز الذي من طرفنا، فيه شباب رأوا رجلا مسكينا كبيرا في السن، فتشوه فوجدوا معه كيسا صغيرا فيه بعضٌ من اللحمٌ المفروم، يُريد أن يأخذه معه لمناطِق النظام، كيسٌ صغيرٌ يظهَرُ أنه للأكل، ليس للبيع ولا للتجارة… يقول من شهد القصَّة: فإذا بأحد أولئك السفهاء يُخرج هذا اللحم المفروم ويمسح به ثياب ذاك الرجل المسكين … قال لي صاحبي: والله لمّا رأيت المشهد أيقنت بأنَّ الله سيُخرِجُنا من هنالِك أذِلَّاء، إن لم يتغيَّر الحال سنخرُج من هنالِك أذِلَّاء صُغراء، قالها يوم كنَّا في أوج قوَّتِنا قبل ثلاث سنوات.
وهذا ما حدث فِعلًا… تركوا السفهاء يتسلَّطون على الخلق، حتى يأس الناس منهم وانفضوا عنهم وأخرِجنا من حلب أذِلَاء صاغرين.
نعم أيها السادة، أخرِجنا منها أذِلَّةً يوم ساءت أخلاقنا وتخلَّقنا بأخلاق أعدائنا الكفار ونحن ندعي بأننا مجاهِدون وثوار!!
أهل أوربا وما غربها -أيها السادة- على ما عندهم من فسادٍ اجتماعي وانحلالٍ أخلاقيٍ وأسَري، عندهم قيمٌ ومُثُلٌ يتفِقون عليها، هي سبب تماسُك دولهم ومجتمعاتِهم، تراهم يُصِرُّون عليها ويعرفون أنها صمام أمانهم، تلك القيم التي تضمَن تماسك مجتمعاتهم ودولهم، وردت في حديثٍ مهم خطير، لا يعرفه كثيرٌ من المسلمين مع أنَّه في صحيح الإمام مُسلِم، فقد روى – رحمه الله – في صحيحه أنَّ الْمُسْتَوْرِدَ الْقُرَشِيَّ قال عِنْدَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يَقُولُ: «تَقُومُ السَّاعَةُ وَالرُّومُ أَكْثَرُ النَّاسِ» فَقَالَ لَهُ عَمْرٌو: أَبْصِرْ مَا تَقُولُ، [يتعجَّب عمر وهو الذي قاد الجيوش إلى مِصر، والمسلمون يومها في أوج فتوحاتهم، وعزِّ انتصاراتهم وقد هزموا فارِس والروم، وكانوا يمتدُّون ويتوسَّعون … عمرو بن العاص كان قائد جيش المسلمين إلى مِصر يومها … فغلب على ظنهم أنهم سيصلون أطراف الأرض ولن تبقى تلك الدول بعدها، لذلك تعجَّب عمرو واستغرَب. فَقَالَ لَهُ عَمْرٌو: أَبْصِرْ مَا تَقُولُ…فأجابه: الْمُسْتَوْرِدَ الْقُرَشِيَّ …] قَالَ: أَقُولُ مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، [ …أكَّد له أنه سمعه من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حينها تفكَّر عمرو في العلَّة والسبب، وهو المعروف بأنه من دواهي العرب وأشهر أذكيائهم في زمانه (ابن عباس ومعاوية بن أبي سفيان وثالثهم عمرو بن العاص) كانوا أدهى دهاة العرب حينها …] قَالَ: “لَئِنْ قُلْتَ ذَلِكَ، إِنَّ فِيهِمْ لَخِصَالًا أَرْبَعًا: إِنَّهُمْ لَأَحْلَمُ النَّاسِ عِنْدَ فِتْنَةٍ، وَأَسْرَعُهُمْ إِفَاقَةً بَعْدَ مُصِيبَةٍ، وَأَوْشَكُهُمْ كَرَّةً بَعْدَ فَرَّةٍ، وَخَيْرُهُمْ لِمِسْكِينٍ وَيَتِيمٍ وَضَعِيفٍ، وَخَامِسَةٌ حَسَنَةٌ جَمِيلَةٌ: وَأَمْنَعُهُمْ مِنْ ظُلْمِ الْمُلُوكِ”
إِنَّهُمْ لَأَحْلَمُ النَّاسِ عِنْدَ فِتْنَةٍ [ ….يتفكَّرون ويعمِلون عقولهم ولا ينقادون للفتن بسهولة فترى عندهم الحِلم والتفكير والتدبير ..]،
وَأَسْرَعُهُمْ إِفَاقَةً بَعْدَ مُصِيبَةٍ، [لا يستسلمون لمصائبهم، دولهم قبل نصف قرن، دُمِّرت في الحرب العالمية وما بعدها، فلم يلبثوا بعدها سنوات حتى عمروها وأعادوها أفضل مما كانت…] وَأَوْشَكُهُمْ كَرَّةً بَعْدَ فَرَّةٍ وَخَيْرُهُمْ لِمِسْكِينٍ وَيَتِيمٍ وَضَعِيفٍ، [… ما يسمونه عندهم: نظام التكافل الاجتماعي، فالمسكين واليتيم والفقير الضعيف، إن لم يحتوه المجتمع احتواءً سليمًا، سيغدو شخصًا فاسِدًا مُفسِدًا، وسيكون مطيَّةً لأعداء هذا المجتمع، يستثمره الأعداء ضِدَّ بلاده… ولهذا ترى لديهم نظام التكافل الاجتماعي، ومعظمنا رأى كيف عاملوا اللاجئين الذين أتوا من بلادنا، وهم الذين أتوا غرباء ومن دينٍ آخر وقوميَّةٍ أخرى، رأينا كيف يطعمونهم ويؤونهم ويداونَهم… حتى يصلَ اللاجئ لقناعةٌ، مفادها أنه يجب أن يخدم تلك الدولة أكثر من وطنه الأصلي…
قال وَخَامِسَةٌ حَسَنَةٌ جَمِيلَةٌ: وَأَمْنَعُهُمْ مِنْ ظُلْمِ الْمُلُوكِ [ أمنعهم من ظُلم الملوك والحكَّام، لا يصبرون أبدًا على حاكِمٍ ظالم… في بلادنا نحن المسلمين كان الناس على خير، وكانت فين أخلاق الإسلام، فسكتنا على فساد وظُلمِ الملوكِ والحكَّام سنين طويلة، فأفسدوا المجتمع، ولم يعد هناك دورٌ للإصلاح والمصلحين، وأرجعوا البلاد عشرات السنين.
بلادنا هذه في الخمسينات كانت تصدِّرُ معامِلُها لدولٍ مثل إيطاليا وإسبانيا واليونان ورومانيا… فغدونا في آخر الدول اليوم، لماذا؟؟ لأننا صبرنا على جور الملوك والحكَّام…. قال وَخَامِسَةٌ حَسَنَةٌ جَمِيلَةٌ: وَأَمْنَعُهُمْ مِنْ ظُلْمِ الْمُلُوكِ… لا يصبِرون على حاكمٍ فاسد ولا على قائدٍ مُجرِم.
هذه الخصال الخمس – أيها السادة- إن لم نُفعِّلها في مجتمعنا، وإن لم تكن قيمًا تُغرس في أطفالنا، إن لم تكن منهجًا يلتزم به شبابنا وشيوخنا، فما نفع جهادنا وثورتنا؟!
ما نفع جهادِنا، بل كيف سنكسب تأييد الناس وقد انفض كثيرٌ منهم عن الفصائل المتصدِّرة لهذه الثورة؟!
هذه الأمور إن فقدناها فسنبذِل التضحيات وإن انتصرنا فسرعان ما سيأتي من يسلُبنا نصرنا، ويُعيدنا إلى سالف عهدنا، وقد رأينا في دول الربيع العربي كيف أتت الثورات المضادة، كيف أتى من هو شرٌّ مكانً وأضلُّ سبيلا من الحاكِم الأوَّل، لأننا خلعنا حاكِمًا ولم نتغيَّر نحن، لم تتغيَّر أخلاقنا؛ لم نثُر على القيم الفاسدة التي تعلَّمناها؛ علَّمونا على الكذِب والخداع والنفاق وعدم الشفافية والرشوة واستغلال القوي للضعيف .. وغير ذلك من المفاسِد، وها نحن اليوم، وقد ثرنا من أجل الشفافيَّة لا نرى شيئا من الشفافيَّة في ثورتنا!!
هل أحدٌ منكم يدري ما يُتآمرُ عليه ويُحاك خلف الكواليس؟ هل يعلم أحدكم ما يُخطط ويتفق عليه باسمكم قادة الفصائل المتنازعين؟؟ لا أحد يدري.. هل يعرف حتى من يعمل معهم أصلا ما يجري؟؟ … والله تسعٌ وتسعون بالمئة من الشباب لا يدري…. ثُرنا لأجل الشفافية لكن أخلاقنا لم تتغيَّر، لم نثر ثورةً حقيقيَّةً بعد، ثار أهل مِصر فخلعوا حسني مبارك فأتاهم اليوم السيسي شرًا مكانًا وأضلُّ سبيلا… وها هو حفتر في ليبيا، وها هي تونس، وكثيرٌ من المناطِق التي تُحرر الآن في أرضنا لمَّا يرى الناس أخلاق من يحرِّرُها، ترى كثيرًا من الناس ينفِر عن الإسلام وعن الدين وعن الثورة وقد كان معها سابقًا.
أيها الإخوة: أخلاقنا إن لم نبدأ بتغييرها من أنفسنا ومع أولادنا ومع زوجاتنا ومِن ثم في مساجدنا ومدارسنا ومعاهدنا وشوارِعنا ومُدُننا وقرانا، حتى ينشأ جيلٌ جديد؛ جيلٌ رُبِّي على المحنة وتخلَّق بأخلاق الإسلام … فلن يحدث التغيير المنشود، ولن نصِل لهدفنا إن افتقدنا هذا فهذا هو السبيل ولا سبيلَ سواه.
((اللهم أغننا بالعلم, وزيِّنَّا بالحِلم, وأكرمنا بالتقوى, وجمِّلنا بالعافية)) واجعل قابل أيَّامنا خيرًا من ماضيها، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه فيا فوز المستغفرين، وادعوه فإنَّ الله لا يرُدُّ السائلين.
الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى وصلاةً وسلامًا على عبده الذي اصطفى، عباد الله خير الوصايا وصيّةُ ربِّ البَرايا: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ) [النساء:131]. فاتقوا الله عباد الله، فبتقوى الله العِصمة من الفِتَن، والسلامة من المِحَن، واعلموا عباد الله بأن الله سنَّ سننًا في خلقِه، وأمرنا بأوامِر ومن خالف أمرَ الله فلا يلومنَّ إلَّا نفسه، قال تعالى – وقولُه الحق- : ((وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ )) [البقرة:251]. هذا التدافع الذي جعله الله سنَّة كونيَّة، جعل الله له أسبابًا ماديَّة وأخرى إيمانيَّة، فأمَّا الأسباب الماديّة فمفهومةٌ معروفةٌ وحالنا معها معروفٌ معلومٌ، أمَّا الأسباب الإيمانيَّة الغيبيَّة، فهو النصرُ من الله وهو للمؤمنين المعيَّة، فالله سبحانه هو القائل: ((وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ)) [الروم:47]، ولعلَّ السؤال الذي يجب أن يُسأل، وحديثنا اليومَ عن ثورة الأخلاق، هل نحن مؤمنون حقًّا بدرجةٍ نستحقُّ فيها النصر من الله ربِّ العالمين، ما وجه الحديث عن ذلك وحديثنا اليوم عن الثورةِ والأخلاق؟!!
قلت لكم قبل قليل – أيُّها السادة -: “بأن العبادات والمعتقدات بينَك وبين ربِّك، أما أخلاقك فهي مصداق إيمانك” وفي هذا روى البخاري أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ” وَاللهِ لا يُؤمِنُ، وَاللهِ لا يُؤمِنُ، وَاللهِ لا يُؤمِنُ ” قِيلَ: مَن يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: “الَّذِي لا يَأمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ”.
يحلِف النبي – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – ثلاثًا ” وَاللهِ لا يُؤمِنُ، وَاللهِ لا يُؤمِنُ، وَاللهِ لا يُؤمِنُ “… مَن يا رسول الله؟؟ قَالَ: ” الَّذِي لا يَأمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ “؛ أي من لا يأمن جاره أخلاقه السيئة ومفاسِده، فكيف بنا، وقد غدا الجار لا يأمن مِن جاره ما هو أعظم مِن ذلك وأكبر…
سُئل النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – : أيكذب المؤمن؟ قال: (لا) ثم تلا قوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ ﴾ [النحل: 105].
وفي الحديث الحسن الصحيح الذي أخرجه الترمذي يقول – روحي فداه – : “المُسلِمُ من سلِم المسلمون من لسانه ويدِه والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم”.
هذه معايير أيها السادة، نعرف بها إن كنَّا فعلا من أهل الإيمان المنصورين بالنصرِ والمعيَّة الربانيَّة، يوم قال تعالى: ((وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ)) [الروم:47].
إن كنَّا فِعلا نراهِن على النصر الربَّاني في وجه التحدي المادي، فلابدَّ أن نكون فعلا ممن يتخلَّقون بأخلاق، ويأتون بإيمانٍ وتصرُّفات تجعلهم من أهل المعيَّة الربَّانيَّة.
لابدَّ أن نُحسِن لإخواننا، لابدَّ أن نلين بأيدي بعضنا، قال تعالى ﴿ وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُّبِيناً ﴾ [الإسراء: 53].
مفاتيح قرآنيَّة ربانيَّة وسننٌ محمَّديَّةٌ نبوية هي مفتاحٌ لنا لنكون جُزءا من الحل، لا لنبقى كما هو حالنا اليوم وكثيرٌ منا هو جزء من المشكلة، وجزءٌ كبيرٌ منها!!…
الأيام تكشف لنا يوما بعد يوم بأننا:
نعيب زماننا والعيبُ فينا وما لزماننا عيبٌ سوانا
ونهجو ذا الزمانَ بغير ذنبٍ ولو نطق الزمان لنا هجانا
استثمرنا في السياسة بهوانا، بل تاجرنا باسم الدين، وغدا البعض يطوِّع الآيات والأحاديثَ بهواه، وما ذاك إلا لسوء أخلاقنا ولفسادِ سريرتِنا ونفوسِنا.
إن كنَّا فعلًا نريد الثبات على درب الجهادِ الأحمر وصولًا لهدفنا المنشودِ، هدفِنا السامي الأخضر، فلابدَّ من أن نثور على أنفسنا أولا، لكي تنتصِر هذه الثورة التي تحارِبُها أمم الأرض لأنَّها ستقلِب الموازين على مستوى أمَّةِ الإسلام قاطبة.
كل الشياطين اشمخرّ ضلالها*** لنكون ممن في المفاسد هاموا
ونكون طوعا للطغاة ونسلهم *** حتى القيامة ما استطال فئام
لكنّ طفلاً أشعل النار التي *** شبّت فطالت فادلهمّ ظلام
هبت رياح الحق تقشع ذلة *** طالت دياجيرا فزال كلامُ
سبعٌ مضين على الشآم كأنها *** لحظات موت ما لهنّ تمامُ
هي لحظة عكست مسار حياتنا*** سُقيت دماء الصادقين الشامُ
فضحت سبيل الكاذبين، تكشفت*** لجج النفاق، تطايرت أوهامُ
يا ثورة يزداد عودك قوة *** صبراً على اللأوا، رجالك قاموا
خضراء رمزاً لا تحيد عن الهدى *** حمراءُ درباً ركبُها ووسام
نعم أيها السادة، خضراء رمزاً لا تحيد عن الهدى، رُغم الفِتن ورُغم المِحن، نرى الصبر من الصابرين، ونرى من لا يبيع ثورته، ويبذل لأجلها كل شيء.
البارحة بلغني خبر استشهاد أخ عمره ستين سنة، وقدَّم قبله ولداه شهيدين في سبيل الله!!… هذه الثورة التي وصلت إلى البعض على طبقٍ من ذهب، فعاش في هذه المناطِق حُرًّا كريما، لا يتسلَّط عليه الشبيحة أذنابهم، هذه الثورة التي وصلتك بالهيِّن، بذل غيرك لأجلها مالَه وأولاده وأتمَّها بنفسه، وأنت وصلتك على طبقٍ من ذهب، فتابِع المسير، واعلم أن الشرف كلَّ الشرف، أن نموت على طريق الحق وإن لم نبلغ النهاية، و والله، إنَّ الله غالبٌ على أمره ولكنَّ أكثر الناس لا يعلمون.
أبشروا أيّها الناس بفرج الله، فوالله الذي لا إله إلا هو، إني لأحسُّه العام الثامن بعد سبعٍ عجاف، عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ، بعد سبعٍ عجافٍ شداد، تنقلِب الموازين، ((وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ)) [القرة:143]. وما كان الله ليُضيع تضحياتِكم إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ… إني داعٍ فأمِّنوا.