#خطبة_الجمعة
#الشيخ_محمد_أبو_النصر
سلسلة الأسرة المسلمة (9)
التحكيمُ في المشاكِل الزوجيَّة وعلاجُ نشوزِ الرجُل
🕌 أحد مساجد ريف حلب المحرر.
⏱ المدة: 25 دقيقة.
التاريخ: 30/جمادى الأولى/1439هـ
الموافق: 16/شباط/2018م
🔴الأفكار الرئيسة في الخطبة الأولى:
1⃣ إذا لم تُجد علاجات نشوز المرأة نَفعًا.
2⃣ حَكَما من أهله وأهلها.
3⃣ ملعونٌ من خبب امرأةً على زوجها.
4⃣ عندما يتولى السفهاء التحكيم.
5⃣ إن يريدا إصلاحا يوفِّق الله بينهما.
🔴الأفكار الرئيسة في الخطبة الثانية:
6⃣ نشوز الرجُل وظلمه وتعاطي المرأة مع ذلك.
7⃣ التلطُّف والإحسان؛ إياكِ أن تهجري فراشه فيفكَّر في أُخرى.
8⃣ جواز أن تُصلِح المرأة متنازِلةً عن بعض حقوقِها في ظروف خاصَّة.
9️⃣ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فتذروها كالمعلَّقة.
🔟 تذكَّر : إذا فشِل الإصلاح فسيكون الفِراق.
لتحميل الخطبة كتابيا بصيغة PDF
ملاحظة: ما بين معكوفتين [ ] فهو شرح مُدرج في سياق ذِكرِ الدليل.
الخطبة الأولى
الحمد لله ثُمَّ الحمد لله، الحمد لله دبَّر بحكمته شؤون العباد، وأوضحَ بفضله سبيلَ الرشاد، وقهرَ بحُجَّته أهل العِناد، أحمده – سبحانه وتعالى – وأشكره ونِعَمُ ربِّنا بالشكر تزداد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تنزَّه عن الأشباه والأنداد، وأشهد أن سيدنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسوله، خصَّه ربُّه بالمقام المحمود والحوض المورود في يوم المَعاد، صلَّى الله وسلَم وبارَك عليه وعلى آله الطيِّبين الأسياد، وأصحابه البَرَرَة الأمجاد، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم التناد، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أمَّا بعد إخوة الإيمان ولازلنا في سلسلة الأسرة المسلمة، وقد كان الحديث في الأسبوع الماضي عن علاج المشكلات الأسريَّة، فتحدَّثنا عن أهمِّية أن يعرِف الرجل دوره المنوط به وأن تعرف المرأة دورها، تحدَّثنا عن قَوامة الرجُل وأسبابِها، تحدَّثنا عن نشوز المرأة وعوارِضه، وذكرنا ترتيب العِلاجات وفصَّلنا كيفيَّة استخدامها كما بيَّنتها الآيات الكريمة في سورة النساء، إذ قال المولى تبارك وتعالى: ((الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا)) [النساء:34] … رتَّب الله الوعظ ثمَّ الهجر في المضجع ثمَّ الضرب التأديبي بضوابطه الكثيرة التي تحدَّثنا عنها في اللقاء الماضي، فإذا لم تُجدِ هذه العلاجات ولم تنفع، فإذا كانت المرأة لا تنصلح بها أو كان الرجل سفيها طائشا لا يعرف كيف يُصلح شؤون بيته، أو كان الرجُل ظالمًا فاجِرا فاسِقًا يظلِم بنت الناس، فما الحل حينها؟؟ أنتركهما وشأنَهما ونترك البيت يتحوَّل جحيما ويؤول دمارًا؟! نتركهما ونترك المشاكِل تتفاقَمُ يومًا بعد يومٍ حتى تصِل إلى طريقٍ مسدودٍ لا تُجدي معه الحلول الإصلاحيَّة؟! …
أتت الآية الكريمة التالية فورًا لتوجِّهنا فيما لو لم تُجد العلاجات السابقة نفعًا، فقال تعالى: ((وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا)) [النساء:35].
إن عجِز الزوجان عن الوصول إلى حل فأعينوهما معاشِر المُسلمين، فابعثوا حكمًا مِن أهله وحكمًا مِن أهلها؛ والشرع وجَّه لأن يكون الحكمان من الأهل فهذا أدعى للسترِ، هذا أدعى لبذل الجهد والخوف على مصلحة الأسرة، فإن لم يوجد من أهلهما من هو حكيمٌ عادِل تقيٌّ ذا دين، فلا مانع أن يكونا من غير أهلهما، فيسألان بمقدار الحاجة ويُجِّهان للحل، ويحكمان بين الرجل وزوجته موجِّهين بما يُرضي الله تعالى… لا كما كان يحصل في المحاكِم فيما سبق، كانوا يضعون مُحكِّمين سُفهاء قليلي دينٍ وخبرة فيجعلون الأمر تسليةً، شهدنا وسمعنا كيف كان بعضُهم يسألون عن أمورٍ لا يُسأل عنها ولا يُتكلَّمُ فيها… يسألون عن ذلك لا لضرورة الإصلاح، بل لأجل التندُّرِ والتسلية، ولهذا لما قدَّم المولى، (حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا) فهذا أدعى للستر، (حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا) حكماءٌ عاقلون، أقرباء عطوفون، واحدٌ يمثِّل الرجل والآخر يمثِّل المرأة، يسمعان ويتفقان، وقال العلماء: “لا عبرة في قولٍ انفرد به أحدهما عن الآخر… بل العِبرة فيما اتفقا عليه”.
((حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا)) إن أتيا بنيَّة الإصلاح والتعاون ومساعدة أهلِ هذا البيت لكي لا يُخرب بنيانهم ولا تتشتت أولادهم، يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا، يُوَفِّقِ اللَّهُ بين الرجل وزوجته ببركة سعي الصالحين، إن أضمر الحكمان نيَّة التوفيق والإحسان واتفقا على ذلك وتعاونا عليه؛ يضغط كلٌّ منهما على من يمثله محاوِلا إقناعه بالتنازل عن بعض حقِّه، حينها يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا.
يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا، ببركة حسن نيتهما، وسعيهما في الخير، أمّا إن تقمَّص كل واحدٍ منهما دور محامي الدفاع عن قريبه، يريد أن يبرِّئ ساحته ويحصِّل له مكاسبه، فهذان الحكمان حينها يُفاقِمان المشكلة ولا يحُلانها!!
وأعظم مِن ذلِك وأشدُّ شرًّا وأذيَّة لو تدخَّل السفهاء على الخط بدل الحكماء!!؛
تدخل أبوه وأبوها، تدخَّلت أمُّها وأمُّه، فبدل أن يُقنِعه وتقنِعَها بالتنازل لشريك الحياة، ترى السفيه منهم ينفخ في رأس ابنه أو ابنته كنافِخ الكير، يُزكي نار الخِلاف، يذكُر مثالب الطرف الآخَر وعيوبَه، والله ليس هذا برجُلٍ عاقِلٍ يُريدُ الحل، ووالله ليست تلك بأمٍّ عاقِلة تريد الإصلاح، بل ليس أولئك من المؤمنين، ليسوا مِنّا، بشهادة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عندما قال – روحي فداه – : «لَيْسَ مِنَّا مَنْ خَبَّبَ امْرَأَةً عَلَى زَوْجِهَا أَوْ عَبْدًا عَلَى سَيِّدِهِ». والحديث صحيح رواه أبو داود في سننه.
“لَيْسَ مِنَّا مَنْ خَبَّبَ امْرَأَةً عَلَى زَوْجِهَا”: لَيْسَ مِنَّا من بغَّض زوجها إليها أو من بغَّضت إلى الرجُل امرأتَه.
كم من الآباء والأمهات؟ كم من الإخوة والأخوات والقريبين والقريبات والصديقين والصديقات يقعون في هذا الذنب العظيم؟! يرون الرجل مسرورا مع امرأته سعيدًا على ما كان فيها، فينخرون في رأسه، وينخَرْنَ في رأسها، يتحدثون أمامها عن مثالِب زوجها، ويتحدَّثون عن مثالِب زوجتِه أمامه، بل وتبَرِّرُ بعض الأمهات الفاجِرات ذلك، بحجَّة أنَّها توعِّي ولدها!!
دعيه وشأنه سعيدا ولا تنكدي عليه حياته، دع ولدك مع زوجتِه سعيدا ولا تنكِّد عليه حياته، كفَّ زوجتك عن النخر في رؤوس أولادها وبناتها… إن كنت رجُلا عاقِلا فعليك أن تكُفَّ وتضبط زوجَتَك التي تُشيع المشاكِل في بيت أولادِها وبناتِها.
بعض الأمهات والآباء، يصلون لمرحلة يطلُبون بها من ولدهم أن يطلِّق زوجته بغير وجه حق!! وبعضهم يقول مُبرِّرًا: ألم يأمر عمر بن الخطاب ولده أن يُطلِّق زوجته ولم يُبرِّر له؟!!
أقول لك أيها المُسلِم، لمّا تكون أمُّك أو أبوك كعُمَر بن الخطاب، الذي نزل الوحي من فوق سبع سماواتٍ مؤيِّدا رأيه، عندها أطع أمَّك وأباك وطلِّق زوجتك، من غيرِ سببٍ تعرِفه، أمّا وهما مِن سائر البشر يعتريهما النقص والهوى، فلا وألف لا، بغير وجه حقٍّ وعدل. «لَيْسَ مِنَّا مَنْ خَبَّبَ امْرَأَةً عَلَى زَوْجِهَا أَوْ عَبْدًا عَلَى سَيِّدِهِ»... فكيف به إن كان حكَما يدَّعي الإصلاح بينهما ثمَّ يُخبِّبُ كُلًّا منهما على الآخر، فالأصل في الحكَم أن يسعى في الإصلاح ورأب الصدع ما أمكن، ((إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا)) عليماً خبيراً بمن يسعى للإصلاح، وعليما بمن لا يريد الإصلاح؛ عليمًا بسبب الخلافات بين الزوجين، عليمًا بالظالم وعليمًا بالمظلوم، عليمًا بما يُصلح شأنكم أيَّها الناس فاتقوه وأطيعوه تُفلِحوا وتسعدوا في الدنيا والآخِرة.
اللهم أصلح لنا شأننا كلَّه واجعلنا من سعداء الدارَين … أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه فيا فوز المُستغفرين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وكفى وصلاةً وسلامًا على عبده الذي اصطفى، عباد الله خير الوصايا وصيّةُ ربِّ البَرايا: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ) [النساء:131]. فاتقوا الله عباد الله، فبتقوى الله العِصمة من الفِتن، والسلامة من المِحَن، وما زال حديثنا – أيها السادة – عن المشكلات الأسَرية أبعدنا الله وإياكم عنها، وهنا يحضُرنا سؤال سائلةٍ قالت: تحدَّثت عن نشوز المرأة وكيفية التعاطي معه، ولكن ألا ينشُز الرجُل؟!
ألا ينشُزُ الرجُل ويسيءُ ويظلِم؟ كيف يكون التعاطي معه من الزوجة؟ أيكون بالمِثل؟ أيكون بنفس الترتيب، تعِظه وتهجره وتضرِبه أيضا؟!
أقول والله المستعان على ما تصِفون: بأنَّ حِكمة الله تعالى اقتضت لتمام بناء الأسرة وعمارة الأرض وتماسك المجتمع أن ينقاد الناس لبعضِهم بعضا، فمتى لم يكن لهم قيادةٌ ورأسٌ تنازعوا وفشِلوا وانقلب سعيُهُم ضِدًّا، وقد أتت مشيئة الله تعالى – التي وضَّحها كلامه العزيز – بجعل القوامة والقيادة في البيت للرجل، ولكن هذا لا يُعطيه الحقَّ في الظلم والتمادي والإساء، وفي الوقت نفسه فإنَّ طبيعة مُهِمَّته في البيت، وطبيعة نفسيَّته لا تسمح للمرأة بأن تتعاطى معه حال نشوزِه كما يتعاطى هو معها حال نُشوزِها، فتعاطي المرأة مع زوجها فيما لو نشَز عنها أو ظلمها أو قصَّر معها… يكون بأن تنصحه وتتودَّدَ إليه وتتقرَّب منه، فمتى أحبَّها وتأثَّر بوِدِّها تغيَّر حاله معها، فالنفوس تنقاد لمن أحسن إليها وتلين له، ومما قاله الحكماء: “الضعيف متى أظهر ضعفه أظهر الكريمُ كرمه، متى تمادى الضعيف بضعفه كان من القويِّ كسرُ رأسه” المرأة – أيها السادة- تؤثِّر في زوجها بتودُّدِها وعاطفتها، لكنَّها لا تملك أن تهجره ولو في المضجع، ولا تملِك أن تمتنع منه لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- : «إِذَا دَعَا الرَّجُلُ امرَأتَهُ إِلَى فرَاشِهِ فَلَمْ تَأتِهِ، فَبَاتَ غَضْبَانَ عَلَيْهَا، لَعَنَتْهَا المَلائِكَةُ حَتَّى تُصْبحَ» والحديث في البخاري ومسلم، وهذا التوجيه – أيها السادة – هو في مصلحةِ المرأةِ لو علِمت، فطبيعة الرجل النفسيَّة والجسمية، ستجعل ذهنه ينصرِف إلى امرأةٍ أخرى متى هجرت امرأتُه مضجَعه، فيكون في ذلك دمار البيت لا صلاحُه، بخلاف طبيعة المرأة، التي ستدفعها إلى استرضاء زوجها لو أدار لها ظهره.
وكذلِك الحال في الضرب – أيها الأحبَّة – أيُعقَلُ أن تضرِب المرأةُ زوجها؟!
كيفَ يُضرب السيِّدُ ممن هو تبعٌ له؟!! حينها ستنعدِم السيادة والقَوامة، وينعكس شرُّ ذلك على كُلِّ الأسرة فشلا وضياعًا، إذ لم يبق فيها سيّدٌ مُهابٌ مُطاع… فكيف الحلُّ إذن؟! كيف يكون تعاطي المرأة مع زوجها لو تمادى في ظلمِه ونشوزِه؟
هنا تظهر أهمِّية الحكمين عند العجزِ عن الحل، فالأولويَّة – كما قُلنا – لستر المشاكِل ودفنِها في البيت، فلا يدري بها أحد، ولكن عندما تستعصي الحلول، عندما تتفاقم المُشكِلة، عندما يزداد الظُلم، كيف ستُصلِح المرأة زوجها؟
هنا يكون الحكمان الحكيمان الرفيقان الخبيران، عونا للزوجة المظلومة، بحكم المقام والهيبة يردعان الرجل ويزجرانه فيما لو تبيَّن ظُلمه.
والشرع العظيم – أيّها السادة – لم يتجاهل حالة نشوز الرجل، فكما ذكر الله تعالى في القرآن الكريم حالة نشوزِ المرأة، ذكر أيضًا حالة نشوزِ المرأةِ في مُحكمِ تنزيله في سورةِ النساء، فقال تعالى وقوله الحقّ: ((وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا)) [النساء:128].
ذكرت الآية نشوز الرجُل وإعراضَه ونفوره، ووجَّهت المرأةَ الصالحة إلى كيفية التعاطي معه من بدايته أيضًا، فقال المولى سبحانه: ((وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا)) لم ينشُز بعدُ، ولم ينفِر عنها، ولم يهجُرها، بل بدأت أعراض ذلك، فأحلَّ الله لهذه المرأة العاقِلة الواعية التي تخاف الله، أن تتنازل عن بعض حقوقها لضمان استمرار الأسرة وعمارة البيت، فلعلَّها أُصيبت بمرضٍ دائم أو كبُرت سِنُّها، أو نفَرَ منها زوجها لسبب ما، وهو في قوَّتِه وشبابه وعافيته، فوجّه القرآن المرأة إلى التسامح معه لو تزوَّج بأخرى، بل لو خُيِّرت بين التنازل عن بعض حقوقها أو الطلاق، فلتختر التنازل قليلا، وبهذا فسَّرت أم المؤمنين عائشةُ الآية، ففي البخاريِّ عنها، رضي الله عنها، أنَّها قالت في الآية ((وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا))، قالت : «هُوَ الرَّجُلُ يَرَى مِنْ امْرَأَتِهِ مَا لَا يُعْجِبُهُ كِبَرًا أَوْ غَيْرَهُ، – وفي رواية: لا يستكثر منها [أي مِن الأولاد] – فَيُرِيدُ فِرَاقَهَا وَالزَواجَ بغَيْرهَا، فَتَقُولُ: أَمْسِكْنِي وَلَا تُطَلِّقْنِي ثُمَّ تَزَوَّجْ غَيْرِي، وَاقْسِمْ لِي مَا شِئْتَ. قَالَتْ: فَلا بَأْسَ إِذَا تَرَاضَيَا…»
المرأة الصالحة أيها الإخوة تستعين بحَكَمٍ حكيم، لا تستعين بالسفهاء، تستعين بحكَمٍ حكيم لكي يتكلَّم مع زوجِها، المرأة الصالِحة لا تدفع زوجها إلى الحَرام، المرأة الصالحة تتفهم حاجة زوجِها إلى الزواج، ولا تُنكِّد معيشتها ومعيشته، تسعد بـأولادها وبناتها، بل وجَّهها القرآن إلى جواز أن تتنازل عن بعض حقوقها، لضمان استمرار بُنيانها، فبيتُها، أولادُه، أسرتها هُم عِزُّها وكرامتها، ذاك هو المشروع الأهم وتلك هي السعادة الأنفع..
ومع ذلك أتت الآية التالية منبِّهةً للرجل ومُحذِّرةً لهم، فقال تعالى: ((وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا)) [النساء:129].
لو تنازلت لك تلك المرأة الصالحة عن بعض حقوقها، لكي لا يخرَب البيت ويتشرَّد الأولاد، فلا تذرها كالمعلَّقة؛ تظلِمُها ولا تقوم بحقوقها ولا تأتيها إلا قليلا.
وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا، يا من ترجو مغفرة الله اغفِر الزلاتِ يُغفَر لك، يا من ترجو المسامحة من الله سامِح خلق الله وأولاهم بذلك زوجتُك وبنوك، يا من ترجو رحمة الله، ارحم تُرحم، فالراحمون يرحمهم الرحمن ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء…
فإن عصيتُم الله وخالفتم الرسول ولم ترحموا، ولم تعدلوا، ولم تتسامحوا، ولم تغفِروا، وإن لم تُجد الحلول، ولم ينفع تحكيم العقلاء، فحينها ستصِلون لطريقٍ مسدود بيَّنته الآية التالية بقوله تعالى: ((وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا)) [النساء:130].
إن لم تُجدِ الحلول، وإن لم يكن الحكماء الناصحون معينين على الحل، إن لم تغفِر وإن لم تُسامِح ولم تُحسِن، يكون الفِراق ويكون الطلاق، إن لم تستمتِع بها – كما قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم – عندما قال: «إِن استمتعتَ بها استمتعتَ بها وبها عِوَج، وإِن ذهبتَ تُقيمُها كسرتَها، وكسرُها طلاقُها» [البخاري ومسلم]
حينها يكون أبغض الحلال الذي لا يتساهل بنطقه إلا السفهاء، يكون الطلاق والفراق… وحكمة تشريع الطلاق وآدابه وسُننه والتخفيف مِن آلامِه ومُصابه، هذا ما سنتحدَّث عنه إن أحيانا الله إلى قابل، نفعني الله وإياكم بالقرآن الكريم وبالذكر الحكيم.
اللهم أصلح الزوجاتِ والذرِّيَّة، واهدنا لخير القول والفِعل والنيَّة… إني داعٍ فأمِّنوا.