إلى الذين يضربونهنّ ثم يقولون إن ضربهنّ أُبيح في القرآن، وهم كثيرون بحيث لا أستغرب لو علمت أن ملايين المسلمات يُضرَبنَ في بلدان المسلمين في هذه الأيام باسم الإسلام. إليهم كتبت هذه المقالة.
سأناقش هذا الزعم الذي تزعمون، لكن أرجو أن تتّسع صدوركم أولاً لسماع رأيي فيكم وحكمي عليكم بإيجاز: إن الرجلَ الذي يضرب زوجته ناقصُ الرجولة، وإن رجولته لَتنقص بمقدار عدوانه عليها. لقد منح الله الرجلَ من القوة ما لم يمنحه المرأةَ، فخلقه قوياً وخلقها ضعيفة لحكمة أرادها عَزّ وتبارك، والقوي لا يمكن أن يعتدي على الضعيف إلا إذا فقد المروءة وكان من لئام الناس، أما الشريف الشجاع فإنه إنما يقارع من كان له أهلاً في المكانة ومثيلاً في القوة.
مَن كان أكملَ الرجال في كل الأزمنة؟ محمد عليه صلاة الله وسلامه. أما علمتم أنه ما رفع يده قط، لا على امرأة ولا على غلام ولا حر ولا عبد، إلا في سبيل الله أو تُنتهَك حُرُمات الله فينتقم لله (كما جاء في الحديث الصحيح عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها)؟ ولقد نهى أصحابَه عن ضرب النساء فقال: “لا تضربوا إماء الله”. ولمّا جاءت النسوة إلى أزواجه يشكين ضرب أزواجهنّ قال صلى الله عليه وسلم: “لقد أطاف بآل رسول الله سبعون امرأة كلهنّ يشكين أزواجهن، ولا تجدون أولئك خياركم”.
وماذا كانت وصيته -صلى الله عليه وسلم- للرجال، الوصية الأخيرة قبل أن يغادر الدنيا ويلحق بالرفيق الأعلى؟ قال: “استوصوا بالنساء خيراً فإنهن عَوانٍ عندكم”. ما معنى عوان؟ في حديث البخاري: “فُكُّوا العاني”، أي أطلقوا الأسير. فالعانية هي الأسيرة، وجمعها عوان (على وزن فواعل، كشواعر وكوافر جمع شاعرة وكافرة).
المرأة أسيرة في يد الرجل. هكذا يصفها النبي صلى الله عليه وسلم، لأنها لا تملك أن تخرج عن حكم الرجل ورعايته، فهو قوّام عليها وراعٍ لها. ولكن الرعاية أمانةٌ ومسؤولية وليست ظلماً وتسلطاً، ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: “كلكم راع وكلكم مسؤول”؟ إن الرعاية أمانة ومسؤولية مُنِحَها الرجل في الدنيا لكي تستقيم الحياة وتنتظم أمور الجماعة، لكنه سوف يُحاسَب عنها في الآخرة كما يحاسَب كل مسؤول عن رعيته، فإذا قَصّر في واجبه أو ظلم وتجاوز فحسابُه على الله، ولسوف ينتصر الله لكل مظلوم من كل ظالم، لا فرقَ بين حاكم ومحكوم أو زوج وزوجته، الظلم واحد، وهو محرَّم في الأحوال كلها والعقوبة الربانية واجبة على الظالمين جميعاً.
يقولون: لكن الله أجاز للرجل أن يضرب زوجته فقال: {واضربوهن}. والجواب من وجهين: أولهما أن الله -تبارك وتعالى- الذي قال ذلك في موضعٍ من كتابه قال في موضع آخر: {خُذْ بيدك ضِغثاً فاضرب به}، وضربُ الزوجة في كتاب الله هو هو. قال أهل التفسير: حلف أيوب عليه السلام أن يضرب امرأته مئة جلدة، فأمره ربّه أن يأخذ في يده حزمة فيها مئة عود من الحشيش (أو من أعواد الشجر الدقيقة، الرطب منها واليابس) فيضربها به ضربة واحدة ويخرج من يمينه.
ولكم أن تتخيلوا: ما قوة العود الواحد إذا كانت المئةُ من الأعواد تتسع في قبضة يد؟ أيكون الضرب بالعود الواحد من هذه الأعواد للإيلام والإيذاء؟ فلم يبقَ إلا أن الضرب المقصود هو ضرب “معنوي”، وهو أقرب إلى التقريع والإهانة منه إلى البطش والإجرام الذي يصنعه كثير من الأزواج القساة بزوجاتهم في هذه الأيام.
الوجه الثاني: إن معنى الأمر لا يُفهَم إلا في سياقه، وهذه مسألة يحكم فيها الأصوليون لا العوام وأشباه العوام، حتى إن الإمام ابن السبكي قد عَدّ في “جمع الجوامع” ستة وعشرين معنى للأمر في السنّة والقرآن. إن الله تعالى الذي قال: {يا أيها الذين آمنوا قُوا أنفسكم وأهليكم ناراً} لم يقل: “يا أيها الذين آمنوا اضربوا زوجاتكم”، ففهمنا أن الأمر الأول مطلَق والثاني مقيَّد بعلّته وظروفه، ولا يُفهَم على وجهه الصحيح إلا بقراءة آية النشوز كاملة، فإذا قرأناها علمنا أن للرجل -إذا نشزت زوجته- أن يعالج نشوزها بالتسلسل الذي بيّنَته الآية، فيعظها أولاً، ثم يهجرها ثانياً، ويضربها آخِراً.
لكن ما هو النشوز الذي يستوجب ذلك العلاج؟ النشوز هو الاستعصاء والشراسة وإساءة العشرة، وهو قد يكون من الرجل (فيسمّى ناشزاً) أو من المرأة (فتسمى ناشزاً أو ناشزة)، والاثنان في القرآن: {وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً} و{اللاتي تخافون نشوزهن}. فلا يحل لرجل أن يضرب زوجته إلا إذا استحالت عشرتها، هذا ما يُفهَم من آية النشوز ومن حديث إياس بن عبد الله الذي يُروى في الباب، وفيه: “ذَئِر النساء وساءت أخلاقهن منذ نهيتَ عن ضربهن”، والذأَر هو النشوز نفسه كما يقول أهل اللغة.
فقط في هذا الحالة التي تعصف بالأسرة وتنتهي غالباً بالطلاق شُرع العلاج المُرّ وقايةً مما هو أكثر مرارة، وهو تهدّمُ الأسرة وانفصال الأبوين وضياع الأولاد بين هذه وذاك. في هذه الحالة فقط ومن أجل ذلك الهدف النبيل فحسب يمكن أن يلجأ الزوج إلى آخر العلاج، وهو فعلاً العلاج الأخير لأنه لم يَحِلّ له إلا بعد استنفاد الوسع من الوسائل الأخرى التي سبقته في الترتيب. أما الضرب المزاجي لأي سبب والذي يكون غالباً تنفيساً عن الغضب فإنه عدوان أثيم وجريمة قانونية وشرعية، إنْ نجا فاعلها من محكمة الأرض فلن ينجو من محكمة السماء.
كلمة أخيرة إلى من ضرب زوجته ذات يوم ثم ابتُلي بالاعتقال والتعذيب في سجون الطغاة في السنوات الثلاث الماضيات: لقد أراد الله بك خيراً حينما سلط عليك مَن هو أقوى منك فسامك العذاب، فأراك القهرَ الذي تحسّ به المرأة الضعيفة التي يعتدي عليها الرجل القوي فلا تجد من ظلمه وبأسه حِمى تحتمي إليه.
كيف كان شعورك وأنت تتعرض في المعتقَل للضرب يا مَن ضربت زوجتك ذات يوم؟ أما أحسست أخيراً بمرارة القهر والظلم اللذين لم تحسّ بهما من قبل؟ أما حملك هذا الإحساس على مراجعة النفس والتوبة من الذنب والإقلاع عن الطغيان والعدوان؟ إذا لم ينفعك ذلك كله ومضيت في الظلم فتذكر قدرة الله عليك يوم تقف بين يديه في المحاكمة الكبرى يوم الدين، ثم أعدّ لذلك اليوم الجواب.
يا أيها الأقوياء: تذكروا أن القوة لا تدوم وأن الله سينتقم لكل مظلوم من كل ظالم. إن كنتم رجالاً حقاً فاقتدوا بهَدْي أرجل الرجال، واعلموا أن الرجولة الحقيقية هي مقارعة الأقوياء، لا ضرب امرأة ضعيفة عزلاء.