بقلم: د. محمد عياش الكبيسي
تلميذ يخرج من قاعة الامتحان، ثم يأخذ بالدعاء أن يجعل الله الخرطوم عاصمة لليابان! لأنه أخطأ فكتب ذلك في ورقة الامتحان، لا أدري مدى صحة الحكاية، لكني أدري أنها تعبّر بشكل أو بآخر عن ظاهرة منتشرة لدى كثير من المتدينين، بل ربما نسمعها من على منابر الدعوة والإرشاد.
إن ما يقوله هذا التلميذ في دعائه لا يختلف كثيراً عن أولئك الخطباء الذين يدعون بالنصر على أميركا وروسيا وبورما وإيران وربما الهند والسند والصين واليابان! كأنهم يريدون من القدر أن يقلب لهم موازين العالم وسننه ونظامه العام، ويسد عنهم فشلهم وعجزهم وجهلهم ونقصهم، ومنهم من يزيد على ذلك، فيبشّر جازماً بوعد الله الأكيد.
إن الله سبحانه قد أقام هذا الكون على سنن لا تتخلف، ولكل نتيجة جعل لها مقدّماتها وأسبابها، فمن أخذ بهذه المقدمات والأسباب وصل إلى نتائجها، والعكس بالعكس، مهما اختلفت التصورات الدينية والنظرة المجردة إلى عالم الغيب، فلو ألقيت اثنين من الناس مؤمناً وكافراً في عرض البحر، فإن الذي سينجو إنما هو الذي أتقن السباحة، ولا علاقة للإيمان والكفر بذلك، هذا قانون أقام الله عليه هذه الحياة، لا يتخلف ولا يتبدّل، ولو تخلّف أو تبدّل لاهتزّ نظام الحياة وعمّت الفوضى، واستوى العالم بالجاهل، والنبيه بالغافل، هذه حكمة الله التي لا تتعارض أبداً مع قدرته تعالى المطلق ة.
لقد جرّب الغرب هذه السنن وسار عليها، فامتلك ناصية العلم والقوة والإدارة الناجحة لموارده وإمكانياته، ثم جرّبت اليابان والصين، وها هما ينافسان الغرب في ذلك، برغم اختلاف دينهم وثقافاتهم، ونحن المسلمين أولى أن نكرر هذه التجربة، لا سيما أن ديننا الحنيف هو الذي علّمنا هذه الحقائق، وبصّرنا بهذه السنن، وعلمنا أن هذه السنن لا تنحاز ولا تحابي «ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءاً يجز به»، «فلن تجد لسنّة الله تبديلاً ولن تجد لسنة الله تحويلاً»، «إنا كلّ شيء خلقناه بقدر».
باحترام هذه السنن ومراعاتها وافق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على الصلح مع قريش لعشر سنوات، ومعنى هذا الصلح أن تبقى الكعبة عشر سنوات محكومة بالأصنام والشرك والوثنية، وكان معه ألف وأربعمائة من أصحابه الأبرار، قد بايعوه منذ لحظات على الموت، لكنه لم يزج بهم في معركة غير محسوبة وغير مدروسة، مهما كان مستوى إيمانهم وعدالة قضيتهم، لكنك تجد اليوم ممن لا علم عنده ولا خبرة ولا دراسة ولا سياسة، فضلاً عن تلك المعاني الإيمانية، من يغري الشباب ويمنّيهم بنصر الله الأكيد، ويدفعهم بخطاب عاطفي تعبوي، ويغلق عيونهم وآذانهم عن أي حل يناسب حال الأمة ووضعها الاستثÙ ائي الخطير، إنها صورة متكررة لذلك التلميذ الكسول.
لقد آن لنا أن نعرف أين نحن، وما هو موقعنا في هذا العالم، وما العمل المطلوب لتقليص الفارق الحضاري بيننا وبين الآخرين، فنحن لسنا استثناء من شعوب الأرض التي تنهض، ثم تنتكس، ثم تنهض، هكذا هي سنة الله في هذه الحياة، أما الذين يظنون أنهم معفوون من هذه السنن، وأن السماء ستفاجئهم بالمعجزات، فإنهم واهمون.