#خطبة_الجمعة
#الشيخ_محمد_أبو_النصر
فرح المُخلَّفون بمقعدهم
🕌 أحد مساجد ريف حلب المحرر.
⏱ المدة: 36 دقيقة.
التاريخ: 13/ربيع الأول/1439هـ
الموافق: 1/كانون الأول/2017م
🔴الأفكار الرئيسة في الخطبة الأولى:
1⃣ قصة غزوة تبوك… والثلاثة الذين خُلِّفوا.
2⃣ لماذا قبل النبي عُذر المنافقين ولم يقبل مِن المؤمنين.
3⃣ ضرورة تجافي وتمايز المؤمنين عن المنافقين.
4⃣ أيها المعذور… اكفنا شرَّ لسانك!!
5⃣ إِنَّهُمْ رِجْسٌ … المنافقون مؤيدو الطواغيت
🔴 الأفكار الأساسية الواردة في الخطبة الثانية:
6⃣ لماذا نكثر النصح للمجاهدين ونتجاهل غيرهم من المنافقين؟؟
7⃣ ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة إلا كُتب لهم.
8⃣ بوصلة المجاهد لمعرفة الحق وضحتها الآيات فورا.
9️⃣ الإنذار واجبٌ على العلماء.
🔟 يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم.
لتحميل الخطبة كتابيا بصيغة PDF
ملاحظة: ما بين معكوفتين [ ] فهو شرح مُدرج في سياق ذِكرِ الدليل.
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي رفعَ منازِل الشهداء في دار البقاء, أحمدُه سبحانه وتعالى, حثَّ عباده على التضحية والبذل والفداء, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أنَّ نبيَّنا محمدًا عبدُه ورسوله, خيرُ من بذل نفْسَه وماله لله وأحسن وأجزَل العطاء, صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه الأئمة الكرامِ النُّجباء, ومن سار على دربهم واقتفى سبيل المهتدين الأتقياء، وسلَّم تسليمًا كثيرًا…
أمَّا بعد إخوة الإيمان، حديثنا اليوم عن تفسير آياتٍ بيِّناتٍ خطيراتٍ عظيمات من سورة براءة، مِن سورة التوبة، مِن تلك السورة التي لم تُبدأ بالتسمية لما في التسمية من معاني الرحمة من الرحيم الرحمن سبحانه، ولِما في هذه السورة من عكس هذا المعنى على الكفَّار والمشركين والمنافقين والمرجفين…
حديثنا اليوم – أيها السادة – يلخِّصه قول الله تعالى: ((فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ)) …
هذه الآية نزلت بعد غزوة تبوك … غزوةُ تبوك في رجب من السنة التاسعة للهجرة، إذ بلغ رسول الله -صلَّى الله عليه وسلم- أنَّ الروم قد جمعوا جموعًا كثيرة في الشام، وأنهم قدَّموا مقدمات جيشهم تجاه جزيرة العرب بتحريضٍ من متنصرة العرب (مِن الغساسنة وغيرهم من القبائل النصرانية)… وكان ذلك في زمن عسرة وزمن جدبٍ في البلاد وشدَّةٍ من الحر، كان ذلك في الصيف حين طابت الثمار، والناس يحبون المقام في ثمارهم وظلالهم صيفا… يضاف لذلك بُعد المسافة ووعورةُ الطريق، والطريق من المدينة إلى الشام طويلة؛ عشرون يوما ذهابا وعشرون يوما إيابا … وكالعادة في مثل هذه الأحوال وفي مثل تلك الظروف ينشط المنافقون والعملاء والمرجفون الذين أخذوا يهوِّلون على المسلمين مُشِيعين بأنَّ الروم جمعوا أربعين ألف مقاتل!!
وكان r إذا أراد غزوةً ورَّى بغيرها لكي لا تنكشف خُطته ولكي يُعرف طريقه، أمَّا في غزوة تبوك فنظراً لخطورة الموقف ولشدة العُسرة أعلن رسول الله أنه يريد لقاء الرومان، وجلَّى الأمر للناس؛ ليتأهبوا أُهبَةً كاملة، وحضَّهم على الجِهاد، ونزلت قِطعةٌ من سورة براءة تثيرهم على الجِلاد، وتحثُّهم على القِتال، ورغَّبَهم رسول اللّه -صلَّى الله عليه وسلَّم- في بذلِ الصدقات، وإنفاقِ كرائمِ الأموال في سبيل اللّه.
فتبارى الصحب الكرام ينفِقون في سبيل الله، في ذلك اليوم، يومَ خرج أبو بكر عن كلِّ ماله، فقال له رسول الله: “ما تركت لعيالك؟” ، فقال –رضي الله عنه-: “تركت لهم الله ورسوله”، في ذاك اليوم، يومَ أتى عثمان بمئات النوق وآلاف الدنانير، حتى قال له رسول الله: ” مَا ضَرَّ عُثْمَانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ اليَوْمِ مَرَّتَيْنِ” [حديث حسن أخرجه التِّرمذي]، أنفق الصحابة كرام مالهم، ونفرَ الصحابة الكرام، بذلوا أموالهم وأنفسهم في سبيل الله، لبُّوا نداء رسول الله في ساعة العُسرة والضيق (زمن الصيف وفي شدَّة الحر) يريدون أن يقطعوا الصحراء مشيًا على الأقدام وركوبا على الدواب، لم يؤثروا البقاء مع نسائهم ومع أولادهم في الظل والفيء، خرج الصحابة الكرام ولم يتخلَّف عن رسول الله إلَّا من حبسهم العذر، أو الذين كذَبوا اللّه ورسوله من المنافقين، وهم صنفان، صنف قعد بعد أن استأذن رسول الله بكِذبَةٍ كذَبها فأذِن له رسول الله، وصنف لم يستأذن أصلًا، ولم يتخلف من المؤمنين الصادقين أيَّها السادة -من غير أهل الأعذار- إلا ثلاثة ابتلاهم الله ثم تاب عليهم…
انطلق ورسول الله ومن معه من الصحابة ونزل الجيش الإسلامي بتبوك، وكان الرومان في ذلك الزمان أقوى قوة على وجه الأرض -بتقدمها العسكري وبسلاحها وبعددها وبعدتها- خرج رسول الله ولم ينتظرهم حتى يأتوا إليه، إذا ما غزي قومٌ في دارهم إلا ذُلُّوا لأنَّ الدمار سينتقل إلى أرضهم، النبي خرج إليهم، فلمّا سمع الرومان وحلفاؤهم بزحف رسول اللّه إليهم، قذف الله في قلوبهم الرُّعب، فلم يجترئوا على التقدم واللقاء، بل تفرقوا داخل حدودهم في بلاد الشام، وانتصر المسلمون بغير قتال، وحصل بذلك المسلمون على مكاسب سياسية كبيرة فدانت لهم كثيرٌ من قبائل العرب، بمكاسب لم يكنوا ليحصلوا عليها لو وقع صدام بين الجيشين، مكاسب سياسيةٌ كبيرة، هذه المكاسب لم ينالوها إلَّا بعد أن غزو عدوهم، ولم ينالوها إلا بعد أن حرَّكوا جيوشهم…
لابُدَّ أن يفهم الذين يعملون في السياسة أن المنهزمين المتقهقرين لا يُحصِّلون شيئا بالسياسة، السياسة يكسب فيها من حرَّك قواته وأرهب أعداءَه…
عاد رسول الله من غزوة تبوك وقد استمرت خمسين يوما؛ أقام فيها النبي عشرينًا بتبوك وثلاثون يوما طريقه ذهابا وإيابا… فلمَّا قدِم رسول الله المدينة، وَكَانَ من سنته روحي فداه أنه إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ، بَدَأَ بِالْمَسْجِدِ فَرَكَعَ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ جلَسَ لِلنَّاسِ –يستقبلهم ويستقبلوه- فَلَمَّا جلس النبي جَاءَهُ الْمُخَلَّفُونَ، جاءه الذين تخلَّفوا عن نُصرة النبيِّ ساعة العسرة، فَطَفِقُوا يَعْتَذِرُونَ للنبي، وَيَحْلِفُونَ لَهُ، وَكَانُوا بِضْعَةً وَثَمَانِينَ رَجُلًا، فأخذ رسول الله منهم ظاهرهم وقبل علانيتهم وَبَايَعَهُمْ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ، وَوَكَلَ سَرَائِرَهُمْ إِلَى اللهِ، ففرِح أولئك المُخلَّفون وظنُّوا أنهم قد مرروا كذبهم على الله وعلى رسوله…
فرح الذين يطنون الآن أنهم غير مطالبين بأن يناصروا إخوانَهم، وإخوانهم يصدُّون الكفَّار والخوارِج وهم يتفرَّجون يتحجَّجون بحُجَجٍ واهية، ويلقون باللائمة على ما حدث في الأشهر الماضية، يظنون بذلك –يتوهَّمون بذلك- أنهم يبرؤون ذمتهم أمام الله!!
لم يدرِ أولئك المنافقون أنَّ النبيَّ عاملهم بذلك لأنه لا يريدهم، لأنَ النبيَّ لا يأبه لهم ولهذا كان الفرق الكبير بين معاملتهم وبين معاملة الثلاثة نفرٍ المؤمنين؛ الذين ابتلاهم الله حتى تاب عليهم.
وإذا بالقرآن ينزل يفضح حال أولئك الفرحين، الذين يتخلَّفون عن الجهاد بالأعذار الواهية الكاذبة، وكم نرى منهم في يومنا هذا؛ كم نرى ممن ترك الجهاد في وقت نحن الآن أحوج ما نحتاج إليه لمن يصدُّ عنا عادية الأعداء، وما الريف الجنوبي منكم ببعيد، وما ريف حمَاة منكم ببعيد، إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا…
أتت الآيات تفضح حال أولئك فقال تعالى – بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم-:
((فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82))) [التوبة:81-82]
سيأتي يوم يعضُّون فيه أصابع الندم في الدنيا قبل الآخرة، يندمون على تخاذلهم وعلى تقاعُسِهم، أولئك المخلَّفون؛ سماهم الله مُخلَّفين ولم يقُل مُتخلِّفين، لأنَّ الله تعالى كتب عليهم أن يتخلَّفوا لِما عَرَف من فساد نفوسِهم وضمائرهم، ((وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ)) [التوبة:46]، ثم يأتي التوجيه للنبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- : ((فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ)) [التوبة:83]
أولئك الذين لا يخرجون إلا مع رياء وسمعة أو للغنيمةٍ أو مكرهين …
((سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا )) [الفتح:15]…
ساعة المغنَم، وساعة المكسب، وساعة كانت الثورة مربَحا سيقولون ذرونا نتبعكم، يركبون الموجة، فإذا غدت عُسرا وشدَّة وابتلاء من الله ليميز فيه الصادقين تراهم يولُّون الأدبار، فإذا خرجوا أرجفوا وخذَّلوا وضرُّوا أكثر مما نفعوا…. ولذلك أمر الله رسولَه أن لا يُخرجهم معه، بل أمر الله بمقاطعتهم واحتقارهم والإشارة إليهم لكي يُعرفوا بأنَّهم منبوذون من المؤمنين، لكي يعرفوا أن المؤمنين جافوا أولئك الشبيحة والمؤيدين، نبيحة الطواغيت، لذلك أكملت الآيات تأمر رسول الله والصحابة: ((وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ)) [التوبة:84]. ماتوا على النفاق، لا نُصلِّ على أحدٍ منهم مات أبدا لكي يعلم النَّاس أن لا مودة بيننا وبن أولئك المنافقين …
((وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ)) [التوبة:85] الأموال تأتي للبر وللكافر وللفاجر، إنما هي فتنة يفتن الله بها عباده في الدنيا، ثم تتبع الآيات الكريمة…
((وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ [… أولوا العافية أولوا القوة ألوا المال…] وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (86) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ [… رضوا أن يكونوا مع النساء، رضوا بأن يكونوا مع الولدان، رضوا بأن يكونوا مع العجائز…] وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (87))) [التوبة:86-87] ، هذا حال أولئك المنافقين أيها السادة، هذا حال العملاء، هذا حال المرجفين، هذا حال عديمي الإيمان، فأصل المشكلة بيننا وبينهم، إيمان بالله وبوعد الله للمؤمنين، وغياب ذلك في قلوب المنافقين.
تتبع الآيات الكريمة تصف حال المؤمنين، تصف حال الصادقين: ((لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89))) [التوبة:88-89]
هذا حال المؤمنين الصادقين وهذا ما أعده الله لهم، من قاتل لأجل الدنيا سيموت لأجل الدنيا، أما من قاتل لأجل الله فجزاؤه جنات تجري من تحتها الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ.
ثم تصف الآيات الكريمة حال المُعذَّرين، حال أولئك الذين كذبوا على رسول الله وأتوا يتعذرون بالأعذار الواهية، حالَ أولئك الذين ظنُّوا أنَّهم فرِحوا بما كذبوا به على الله ورسوله… تتبع الآيات الكريمة:
((وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (90))) [التوبة:90]
من يكذب الناس هل يظن أنه سيكذب على الله وعلى رسوله؟! هل يظن أنَّ كذِبَه سينطلي على من يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور؟!!
إن برَّر لك الناس قعودك فكيف ستبرِّرُ ذلك أمام ديَّان السماوات والأرض؟! المعذور من أتبعت الآيات تصفه: ((لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ […هؤلاء الضعفاء والمرضى والنساء والأولاد والعجائز والذين لا يجدون ما ينفقون (الفقراء) ليس عليهم حرج …] إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ […صحيح أنه معذور، معذور على أن يكفي المؤمنين لسانه، لا يعني أنه إذا كان معذورا أن يطلق لسانه في عورات إخوانه …] مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91))) [التوبة:91]
((وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ)) [التوبة:92]
يوم تبوك أتى مِن أصحاب النبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- من غلبت الدموع أعينهم وذهب ليستدين من الناس لكي لا يكون من القاعدين ولكي لا يتخلف عن الجهاد، ولكم رأينا أول أيام ثورتنا من الرجال الصادقين الذين باعوا مِن أملاكهم، واستدانوا من إخوانهم، ليشتروا السلاح يوم كان السلاح عزيزا وليجاهدوا في سبيل الله … ((إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ)) [التوبة:93].
نعم أيها السادة، أولئك الذين يرضون الآن ونحن في شدة المِحنة أن يكونوا مع الخوالِف، ويتركون إخوانهم في مواجهة الكفَّار والخوارج، أولئك طبَع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون…
أولئك الذين يعتذرون إلينا يظنُّون أنهم يكذبون على الله!! ((يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ )) [التوبة:94]
نعم، إن اعتذرتم إلينا فلا داعي لأن تعتذروا، لن نحاسبكم الله تعالى هو حسيبكم، ستُردُّون إلى عالم الغيب والشهادة فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، هنالك يوم نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ، هنالِك، هنالك لا ينفع الكذِبُ ولا يُجدي نفعًا …
((سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)) [التوبة:95]
((إِنَّهُمْ رِجْسٌ)) والله أيها السادة دينٌ أدينُ الله تعالى به، لا أرى كلَّ من يؤيد الطاغوت بعد ما فعل بالمسلمين وأجرم، إلا رِجسًا نَجَسًا يجب اجتنابه،(( فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (96)))
[التوبة:95-96]
فإن ترضوا عنهم، وتغترُّوا بمعسول كلامهم فإنَّ الله لا يرضى عن القوم الفاسقين، اللهم اكتُبنا من المؤمنين واحشرنا مع الصادقين، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه فيا فوز المستغفرين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وكفى وصلاةً وسلامًا على عبده الذي اصطفى، عباد الله، خير الوصايا وصيّة رب البرايا: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ) [النساء:131] فاتقوا الله عباد الله، فبتقوى الله العِصمةُ من الفِتن، والسلامة مِن المِحَن. واعلموا إخوة الإيمان أنَّ أعظم الفتن أن يُفتن المرء في دينه وأن ينكِص على عقبيه، وأن يرجع مِن الخير إلى الفساد والسوء والعياذ بالله، وما زلنا مع سورة براءة وما زال الحديث عن المُخلَّفين وما زال الحديث عن المنافِقين وما زال الحديث عن المُرجِفين وما زال الحديث عمَّن يقابلهم منالمؤمنين الصادقين، أولئك الذين قال الله في حقهم:
((لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118))) [التوبة:117-118]
تخلَّف عن رسول الله بضع وثمانون من المنافقين ومن الأعراب من الكاذبين الذين قبل رسول الله منهم ظاهرهم لأنه لا يريدهم أصلًا لأنه لا يأبه بهم أصلا أما الثلاثة أهل الإيمان – كعب بن مالك ومُرَارَةُ بْنُ الرَّبِيعَةَ الْعَامِرِيُّ وَهِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ الْوَاقِفِيُّ – هؤلاء الثلاثة الذين عرَف مِنهم إيمانا صادقا والأَخِرَين منهما شهدا بدرًا، فهؤلاء لم يَقبل منهم، وهؤلاء أصلًا لم يكذبوا على رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- لما جلسوا بين يدي رسول الله سألهم عن عذرهم فلم يكذبوا الله ورسوله، صدقوا الله ورسوله وقالوا للنبيِّ ما حبسنا عذر وإنَّا كنا أولي قوةٍ ومال ولكن غلبتنا شهوتنا فتخلفنا عن رسول الله، فأخَّرَهم النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- إلى أن ينزل من الله شيء في حقهم.
يسألني البعض لماذا أحيانا تكثر وتغلظ النصح للمجاهدين وتتجاهل غيرهم؟؟
قلت لهم، أولئك بعد سبع سنوات نفضنا أيدينا منهم نهملهم ولا نرجو خيرهم، بعد سبع سنوات من الحرب الذي أُشرِب العِجلَ والطاغوتَ بقلبه لا نرجو منه خيرًا ولا نتأمَّل به نُصحًا… أما هذا -أخي المجاهد-فنصيحتي له نصيحةُ الأخ لأخيه، نصيحة الأبِ لبنيه، نصيحةُ المحبِّ للمحب، فأكثر النُّصح لهم لأني أرى فيهم نواة ستكون عونًا ونصرة لقيامةِ أمَّة محمد ولبعثها من جديد، ولذلك أكثر النُّصح لهم، وهذ كان شأن النبي مع الصحابة فيما وجهه الله إليه… المنافقون بضع وثمانون، كذبوا على رسول الله وهو يعلم كذِبهم أخذ ظاهرهم وأهملهم، أمَّا الثلاثة الذين عرَف إيمانهم فأرجاهم حتى يُنزِل الله في حقهم، وأمَر الصحابة بمقاطعة الكلام معهم عقوبةً لهم.
فلبثوا على هذا الحال خمسين يوما حتى في العشر الأخير بعد الأربعين الأولى أمرهم النبي أن يعتزلوا نساءهم، قاطعهم كلُّ من في المدينة وأبى أولئك الصحابة الكرام على أنفسهم أن يرضوا أن يُكلِّمهم المنافقون… المنافقون فقط من أرادوا أن يباسطوهم ويحادثوهم فكان يأبى أولئك الثلاثة المؤمنون، خمسون يوما ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم حتى نادى المنادي أن أبشروا بتوبة الله عليكم يوم أنزل الله تعالى ((وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [التوبة:118]
تاب الله عليهم وغفَر ذنبهم، وقبِل صِدق توبتهم بعد خمسين يومًا لم يلجؤوا فيها من الله إلا إلى الله، خمسون يوما يبكون ويصلُّون ويتوبون لله لتخلفهم مرَّةً واحدة وهم الذين شهدوا بدرا رضي الله عنهم وأرضاهم،
لذلك أتبعت الآية الكريمة توجِّهك أيها المؤمن لكي تعرف مع من يجب أن تكون إذ قال تعالى:
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119) مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120)
نعم أيها الأحبة لا يصيبهم نصَبٌ أي تعبٌ، ولا مخمصَةٌ أي جوع ولا عطَش، فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ، حاش لله تعالى أن يضيع أجر أولئك الشباب الذين يعطَشون في سبيل الله، ويجوعون في سبيل الله وينفقون في سبيل الله، ((وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ))
نعم أيّها السادة، كثير من الناس يربط ثواب العباد من الله بفِعل بعض أكابر مجرميها من القادة والمتصدِّرين!! وحاشى لله تعالى وحاشى لله تعالى إلا أن يجازي كلَّ إنسان بمفرده على ما فعل… فلا أنظر لأخي الذي يبذل دمه وجهده وماله ليصدَّ العدو عني، كما أنظر لأكابر مجرميها من بعض القادة والمتصدرين وإن كان هو معهم بالاسم ولكنَّه يصدُّ العدو عني يصد الكفَّار ويصدُّ الخوارج ويصدُّ أعداء الدين عنا…
الله تعالى بشرهم بأنهم لا يجوعون ولا يعطشون ولا يقطعون واديًا … والله ما ينزلون واديا في الريف الجنوبي ولا في ريف حماة ولا يصعدون تلة ولا يهبطون ولا ينفقون نفقة صغيرة؛ -هذا الفقير الذي قد يكون أخذ في جيبه قليلا من السكر لإخوانه شيئا من الشاي لإخوانه- هذه النفقة الصغيرة التي يأخذها هذا المجاهد لإخوانه الله تعالى يبشره ((وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)) [التوبة:121]، لا ينتظرون الثناء منكم ولا ينتظرون الشُّكر منكم ولا ينتظرون المديح مِنكم والله تعالى سيجزيهم أحسن ما كانوا يعملون
((وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)) [التوبة:122]
هذه الآية أتبعها الله بالآيات السابقة مباشرة، الآيات التي تتحدث عن المجاهدين التي تتحدث عمن ينفقون أموالهم وأنفسهم في سبيل الله، لكي يعرف المجاهد من هم البوصلة التي تحدد له طريق الخير من الشر فما إن قال الله لنا ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون، إذا بالآيات تُتبِعُ لتدل المجاهد: من الذي سيدلك على طريق الصواب من الخطأ، أتت الآيات تقول ((وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)) [التوبة:122].
الذين تفقَّهوا في الدين وتعلَّموا العِلم الصحيح على أصوله من العلماء المُثبتين المُسندِين هؤلاء هم بوصلتك الحقيقية وهؤلاء هم بوصلتك الصادقة، أولئك الذين واجبهم أن ينذروا قومهم إذا رَجعوا إليهم لعلهم يحذرون … الله اجعلنا ممن يستمعون أمرك فيأتمِرون وممن يستمعون نهيك فيحذرون ويجتنِبون، اللهم لا تجعلنا ممن قلت فيهم: ((وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ)) [محمد:38]، اللهم استعملنا ولا تستبدلنا، كن معنا ولاتكن علينا، أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين … إني داع فأمنوا