#خطبة_الجمعة
#الشيخ_محمد_أبو_النصر
محبة النبي -صلى الله عليه وسلم- بين الغلو والجفاء
🕌 أحد مساجد ريف حلب المحرر.
⏱ المدة: 31 دقيقة.
التاريخ: 6/ ربيع الأول/1439هـ
الموافق: 24/ تشرين الثاني/2017م
🔴الأفكار الرئيسة في الخطبة الأولى:
1⃣ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ.
2⃣ وصف النبي.
3⃣ مهمَّة النبي كما في القرآن الكريم.
4⃣ حقوق النبي على المسلمين.
5⃣ المحبَّة الحقيقية علاماتها وسبيلها.
6⃣ الغلو المذموم في شخص رسول الله وأمثلة ذلك بأحاديث وردت.
7⃣ ما بالنا نرى الجفاء للنبي ولسنَّته.
🔴 الأفكار الأساسية الواردة في الخطبة الثانية:
8⃣ محبَّة رسول الله قولٌ واعتقادٌ وعمل.
9️⃣ قصيدة #الشيخ_أبو_معاذ_زيتون بعنوان (عُذرا رسول الله) وفيها يقارن حقيقة محبة النبي مع أفعال الأدعياء اليوم!!
لتحميل الخطبة كتابيا بصيغة PDF
ملاحظة: ما بين معكوفتين [ ] فهو شرح مُدرج في سياق ذِكرِ الدليل.
الخطبة الأولى:
إنَّ الحمد لله نحمده ونستهديه ونستغفره ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا وسيِّئات أعمالنا، من يهدِ اللهُ فهو المهتد، ومن يُضلِل فلن تجد له وليًّا مُرشِدًا، وأشهد ألَّا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ نبيَّنا مُحمَّدًا عبدُه ورسوله وصفيُّه وخليله، أرسله ربُّه بالهدى ودين الحقِّ ليُظهره على الدين كُلِّه ولو كرِه المشرِكون، فبلَّغ الرسالة وأدَّى الأمانة ونصح الأُمَّة وكشف الله به الغُمَّة، وأقام في الناس كلمة التوحيد، مَن آمن بها وعمل بمقتضاها فقد أفلح وفاز فوزا عظيما، فصلوات ربِّي وسلامُه عليه وعلى آل بيته الطيِّبين الطاهرين وأصحابه الغُرِّ المُحجَّلين ومن سار على دربهم واهتدى بهُداهم إلى يوم الدين، أمَّا بَعْدُ – إخوة الإيمان- يقول الله تعالى مذكِّرًا عبادَه المؤمنين بعظيمِ مِنَّته وفضلَه الكريم: ((لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ)) [آل عمران:164].
أجل أيها الأحبَّة، إنَّها المِنَّة الكبرى والنعمة العظمى لِمن تدبَّر وتعقل … إنَّه النبيّ الأُمي، الرحمةُ المهداة للعالمين الذي أخرجنا الله به من الظُلمات إلى النور بإذنه…
((لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ))، فالمؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله هم الذين يستشعرون هذه المِنَّة، ويعرفون قدرَ هذه النِّعمة، ((لَقَدْ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَى ٱلْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْ أَنفُسِهِمْ))، يعرفون حسبه، ويعرفون نسبَه، يعرفون صدقَه وأمانته، وهو الذي ما جُرِّب عليه كذب، وما عُرِف بخيانة، ولا عُثر فيه على خلقٍ سيئ، ما عبَد وثناً، وما تعاطى مُسكِراً، وما اقترف جريمةً، بل هو المعروف عندهم بالصادق الأمين، كما شهِد بذلك أعداؤه ومُبغِضوه قبل أنصارِه وأعوانه.
إنَّه محمَّدٌ رسول الله، أدَّبه ربُّه فأحسن تأديبَه، وعلَّمه فأحسن تعليمَه، واختاره لهذا الأمر العظيم، لهذه الرسالة الكبرى، واللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ.
((يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ)) يتلو عليهم هذا القرآن، فيه خبر من قبلهم، وحكم ما بينهم، ونبأ ما بعدهم… يتلو عليهم القرآن لإخراجهم من ظلمات الجهل والضلال إلى نور العلم والهداية؛ ((كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ)) [إبراهيم:1].
((وَيُزَكّيهِمْ)): يُزكِّي أخلاقهم، يزكي نفوسهم، يزكي عقولهم وقلوبهم بطهارتها من الشرك كبيره وصغيره، قليله وكثيره، يزكِّي نفوسهم وطباعهم بطهارتها من رذائل الأخلاق وسفاسِف الأعمال.
((وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ))، علَّمهم القرآن، وعلَّمهم السُّنَّة، ((وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ)) وإن كانوا من قبل مبعَثِه – روحي فداه – لفي ضلالٍ مُبين.
أجل، كانوا قبل مبعث رسول الله في غاية من الضلال، لا يعرفون معروفاً، ولا يُنكِرون منكراً، كانوا في جاهلية جهلاء، وضلالةٍ عمياء، نظر الله إلى أهل الأرض فمقتَهم، عربهم وعجمَهم إلا بقايا من أهل الكتاب، يقول جعفر بن أبي طالب – رضي الله عنه – مخبراً النجاشيَ لما سأله عن النبي، قال: ” كنَّا عبادَ أوثان، نأكلُ الميتة، ونشرب الخمر، ونقطع الرحم، ونأتي الفواحش، حتى بعث الله فينا محمَّداً، فأخرجنا الله به من الظلمات إلى النور” [أخرجه ابن إسحاق، وأحمد وصححه ابن خزيمة].
فصلوات ربَّي على بدر الدُّجى وعلَمِ الهدى محمَّدٍ رسول الله … صلوات ربَّي على من بعثه ربُّه رحمةٌ للعالمين، ((وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)) [الأنبياء:107]، وكتابه نذيرٌ للمكلَّفين، ((تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا)) [الفرقان:1]، بعثه الله برسالة الحقِّ بشيرًا ونذيرًا للعَرب والعَجَم والإنس والجِن أجمعين، ((وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)) [سبأ:28]، ((قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا)) [الأعراف:158].
فنسَخ الله به وبشريعته كلَّ الشرائع: ((وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ)) [المائدة:48]، وألزم الخلقَ طاعتَه: ((مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا)) [النساء:80]، وحَكَم على من خرج عن شريعته بالخسارة في الدنيا والآخرة: ((وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ)) [آل عمران:85]، فالله جلّ وعلا ختم برسالة محمَّدٍ كلَّ الرسالات، وجعله خاتَم الأنبياء والمرسلين: ((مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ)) [الأحزاب:40].
وفي هذا يقول – روحي فداه – : ((لا يسمع بي يهوديٌ ولا نصرانِيٌ ثم لا يؤمِن بي إلا دخل النار)) [والحديث في صحيح الإمام مُسلِم].
أيها المسلم، هذا رسول الله، هذا نبيُّ الله، ولرسول الله عليك حقٌّ عظيم، ومن أعظم حقِّه أن نؤمِن به، وأن نُصدِّق رسالته، وأن نعتقد أنَّه عبد الله ورسوله، أرسله الله إلى الخلق كلِّهم… هو الذي أوذي في الله وصبر لله ومُلِّك ما يشاء على أن يترك تبليغ هذا الدين فأبى أن يترك الدعوة إلى الله وتبليغ الرسالة، فأبى إلَّا أن يحمل الرسالة التي أخرج اللهُ بها الخلقَ من الظُلمات إلى النور…
من حق رسول الله علينا أن نسمع ونطيع له، فإن طاعته طاعةٌ لله: ((مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا)) [النساء:80]، وطاعته سبب للهدى: ((وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ)) [النور:54]، وطاعته سبب للفوزِ في الدَّارين: ((وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)) [الأحزاب:71]، وأي فوزٍ أعظم من النصرِ في الدنيا وجنَّاتِ النعيم في الآخرة: ((مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)) [النساء:13].
هذا النبي الكريم صاحب الخُلُق القويم … لكرامةِ قدره، ولعلوِّ شأنه ولعظيمِ فضله، كانت محبَّتهُ عنوان للإيمان، ومفتاحًا لطريق الجِنان، محبَّةٌ لا يكتمل الإيمان إلّا إن فاقت محبَّة النفس والوِلدان والخِلَّانِ والخلقِ أجمعين، وفي البخاريِّ عن عَبْدِ اللهِ بْنِ هِشَامٍ – رضي الله عنه – قَالَ كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ – صلّى الله عليه وسلَّم – وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ- رضي الله عنه وأرضاه – : “يَا رَسُولَ اللهِ لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا مِنْ نَفْسِي” فَقَالَ النَّبِيُّ – صلّى الله عليه وسلَّم – : “لَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ” فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: “فَإِنَّهُ الْآنَ وَاللهِ لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي” فَقَالَ النَّبِيُّ – صلّى الله عليه وسلَّم – : “الْآنَ يَا عُمَرُ”. [أي الآن يا عُمر اكتمل ايمانك وتمَّ احسانُك إ غدا رسول الله أحبَّ إليك من نفسك].
وفي البخاري ومسلم عَنْ أَنَسٍ – رضي الله عنه – قَالَ: قَالَ – روحي فداه – : “لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ”
فمتى تمكَّنت هذه المحبَّة مِن القلب، كان الثواب الجزيل، وكان الفضل العميم، وكان الخير والتوفيقُ في الدنيا والآخِرة بمحبَّة الله لك أيها المُسلم ((قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)) [آل عمران:31]،
وكان مِن ثمراتِ تلك المحبَّة أنَّ المُحِبَّ يُحشَر مع محبوبه ويلتحق به يوم القيامة، ففي البخاري ومسلم أنَّ رجُلًا سأل النبي _ صلَّى اللهُ عليه وسلّم _ فقال: “مَتَى السَّاعَةُ يَا رَسُولَ اللهِ؟” قَالَ: “مَا أَعْدَدْتَ لَهَا” قَالَ: “مَا أَعْدَدْتُ لَهَا مِنْ كَثِيرِ صَلاَةٍ، وَلاَ صَوْمٍ، وَلاَ صَدَقَةٍ وَلكِنِّي أُحِبُّ اللهَ وَرَسولَهُ” قَالَ: “أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ”. قال أنس: فما فرح المسلمون بعد الإسلام فرحَهم بما قال النبي – صلّى الله عليه وسلَّم- : ((المرء مع من أحب)) [مسند أحمد].
إنَّها المحبَّة وما أدراك ما المحبَّة!! إنَّها المحبَّة الصادقة وثمارها العظيمة، إنّها المحبة وما أدراك ما صِدق المحبَّة؟!!
إنَّها محبَّة من أمِروا فالتزموا، ونُهوا فاجتنبوا، إنَّها المحبَّة التي ادعاها كثيرون، ولم ينجح في امتحانها إلا القليلون، إنَّها محبَّة من نجَح في الامتحان الذي قال عنه الحسن البصريُّ وغيره من التابعين – رحمهم الله – : “ادَّعى أقوامٌ محبَّة الله ورسولِه فابتلاهم الله بهذه الآية: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) [آل عِمران:31]”
ابتلاهم الله بهذه الآية لكي تظهر حقيقة المحبين، حقيقة من يدَّعي محبَّة النبي، فمحبَّة النبي، محبَّة الطاعة والاتباع، محبَّة النبي، محبَّة التأسِّي والاقتداء، لا محبَّة التشهِّي والمخالفةِ والابتداع، محبَّة النبي، محبَّةٌ تظهر في كمال الاستسلام لمُراد المحبوب الذي علَّمنا من ديننا ما يعصِمنا عن الزلل، محبَّة الصادقين فلا غلوَّ فيها ولا جفاء.
لا غلوَّ يرفع النبيَّ – صلّى الله عليه وسلَّم – أعلى من قدره ومنزلته حتى يبلغ بذلِك مبلغ الشِرك بدعائه أو مدحه بما ليس فيه، والله تعالى يقول وقوله الحق: ((قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)) [الأعراف:188]،
ويقول عزَّ مِن قائل: ((قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا * قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا)) [الجن:21، 22]
وقد كان من هدي النبي – روحي فداه – أنَّه حذَّرنا من الغلوِّ في الأشخاص والأفكار، ذاك المرض القاتل الذي فتك بأمَّتنا أفرادًا وجماعات، وفيه يقول – صلوات ربِّي وسلامه عليه- : (( إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِالْغُلُوِّ فِي الدِّينِ)) [والحديث صحيح أخرجه أحمد وابن ماجه]، فالغلو مذمومٌ وإن كان ذلك في شخصه – صلى الله عليه وسلَّم – فما بالك بمن يُغالي فيمن هم دون النبي – صلَّى الله عليه وسلم – من المشايخ والقادةِ والسادة؟!!!
وقد روى البخاري أنَّه – روحي فداه – قال لنا معلِّمًا ومؤدِّبا: ((لا تُطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنَّما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله))…صلَّى الله على محمَّدٍ عبد الله ورسوله…
ولكي يُرشدنا – روحي فداه – لإخلاص التوحيد قال وهو على فراش موته معلِّمًا لنا: ” لَعَنَ اللهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ”.
والحديث أخرجه البخاري عن عائشة، وقالت: “قاله رسول الله في مرضه الذي لم يقم منه” وهو يموت روحي فداه يُحذِّرنا مغبَّة الشرك والغلوِّ بالأشخاص قائلا: ” لَعَنَ اللهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ”.
وقال – روحي فداه -: (( لا تَجْعَلُوا قَبْرِي عِيداً، وَصَلُّوا عَلَيَّ، فَإنَّ صَلاَتَكُمْ تَبْلُغُنِي حَيْثُ كُنْتُمْ )). [رواه أَبُو داود بإسنادٍ صحيح].
هكذا أرشدنا النبي هو المبعوثٌ لإقامة شرع الله، أرشدنا للدعوة إلى توحيد الله وإخلاص الدين لله وحده سبحانه، أتاهُ رجلٌ فقال له: ما شاء الله وشِئت، قال: ((أجعلتني لله نِدا؟! بل ما شاء الله وحده)) [والحديث صحيحٌ رواه أحمد وابن ماجه والطبراني].
هكذا أرشدنا حبيب ربِّ العالمين إلى أن نحبَّه من غيرِ غلوٍّ ولا تعدٍ…
ولكن ألا ليت شِعري أين نحن من الغلو في محبَّة النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – أين نحن من محبَّته ونحن نرى ضِدَّها!! ونحن نرى الجفاء له ولسنَّته قائمًا رائجًا شائعًا بين المسلمين، لا ترى لسنَّة النبي أثرا في حياتهم ولا في معاشِهم ولا في هيئاتِهم ولا في سلوكهم ولا في عباداتهم ولا في معاملاتهم ولا في أخلاقهم… يتشبهون بأعداء النبي ويتأسَّون بمن ناصبَه العداء، يعصون أمر النبي ويرومون الهداية والتوفيق من الله وأنّى لهم؟!! والله تعالى يقول: ((وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ)) [النور:54]، يخالفون نهجه ويتمنَّون التوفيق والنجاح والظفَر، ثمَّ بعد ذلك يأتي منشدهم ليُطربهم فيتمايلون على مدح النبي – صلى الله عليه وسلَّم – يظنون أنهم بذلك بلغوا محبَّته!!
كلُّهم يدَّعي وصلًا بليلى *** وليلى لا تدين لهم بوصل
تنظر في وجه أحدهم فلا تعرفه أمسلمٌ أم يهوديٌ أم نصراني، ويدَّعي محبَّة النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – !!
أخا الإيمان والإسلام، إنّ علامةَ محبة النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – تكون بالتسليم لحُكمِه، تكون باتباع سُنَّته، تكون بالعمل بشريعته، والاقتداء به في القليل والكثير مِن أخلاقِه وعبادته وجهاده، ((لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا)) [الأحزاب:21]. من كان يرجو الله فلابدَّ له من محبَّة الإتباع…
المحب للنبي هو المُعظِّمُ لسنَّته، المظهرُ لها، الناصِرُ لها، العاملُ بها إذا بلغته في العبادات والمعاملات وفي سائر الأحوال، يقتفي سنة النبي، ويبحث عنها، يسأل عنها، ويتعلَّمها، ويهتمُّ بها، يقيم لها وزناً ويطبِّقها، يدعو إليها وينشُرها، يجاهدُ في سبيل نشرِها وحمايتها، هكذا المؤمن المُحِبُّ الصادِقُ في محبَّته لرسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم –.
وأمَّا من كان حاله غيرَ ذلك، فذاك دعيٌّ؛ أتبعَ نفسهُ هواها وتمنَّى على الله الأماني، يدعي المحبَّة ولا يعرفها ولا تعرفه…
والدعاوى ما لم يُقيموا عليها بيِّناتٍ أصحابها أدعياءُ
يدَّعي محبَّة النبي، ويتمايل طربًا على ذِكر النبي، ولا يتأسَّى بالنبي، ولا يتخلَّق بأخلاق النبي، ولا يستنُّ بسنَّة النبي…
أهل المحبَّة للنبي – أيها الإنسان – هم أهل الالتزام بالسُنَّة وأهل الطاعة وأهل التسليم لله ولرسوله بتجرُّدٍ عن الهوى، بتجرُّدٍ عن العادات والتقاليد التي ليست من الدين في شيء، تلك العادات التي حوَّلت كثيرًا من أصولنا الدينية إلى مُجرَّدِ مظاهِر مهرجانيَّةٍ احتفالية تفرِّغ الأصول الشرعيَّة من مضامينها، توهِمُ الناس خيرهم ولا تنبههم على حقيقة عوَرِهم وبعدهم عن ادعائهم… من أحبَّ أطاعَ.. ومن أحبَّ أطاعَ وبذَلَ لمحبوبه، ومن أطاع النبيَّ أفلح، وفي البخاري عَنْ أَبي هريرةَ – رضي الله عنه- : أنَّ رَسُول الله – صلى الله عليه وسلم – ، قَالَ: (( كُلُّ أُمَّتِي يَدخُلُونَ الجَنَّةَ إلاَّ مَنْ أبَى)). قيلَ : وَمَنْ يَأبَى يَا رَسُول الله ؟ قَالَ: (( مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أبَى)).
وفي هذا أخرج ابن كثير والطبري في تفسيريهما مرسلًا عن جُبير وقتادة أنَّ صحابيًّا أتى النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – قائلاً: يا رسول الله، كلما ذكرتُك وأنا في بيتي، لا تطيب نفسي حتى أخرج وأنظر إليك، ولكن إذا ذكرتُ موتي وموتَك وعلوَّ منزلتك وأنا دون ذلك حزنتُ حزناً شديداً على ذلك، فأنزل الله تعالى: ((وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا)) [النساء:69].
اللهم اجعلنا ممن يسيرون على هدي النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم- ممن يلتزمون أمره، ويُحيون سنَّته، ويُجاهدون لنصرةِ دينه، ممن تحشرُهم مع الَّذِينَ أَنْعَمتَ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا…
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه فيا فوز المستغفرين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وكفى وصلاةً وسلامًا على عبده الذي اصطفى، عباد الله، خير الوصايا وصيّة رب البرايا: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ) [النساء:131] فاتقوا الله عباد الله، فبتقوى الله العِصمةُ من الفِتن، والسلامة مِن المِحَن. أمّا بعد إخوة الإيمان فاعلموا أن محبَّة الله الله ورسوله ليست قولا باللسان فقط، بل هي قولٌ واعتقادٌ وعمل، هي طاعةٌ للأوامر واجتنابٌ للمنهيات، وها هي ذكرى المولد النبوي الشريف تتجدد مع شهرِ ربيعٍ الأنور لتحرِّك الأشجان في قلوب المُحبِّين الصادقين، فيجددوا البيعة لنبيهم على اتباع سنَّته ونشرها والجهادِ دفاعًا عنها، وبهذه المناسبة أحببت أن أسمعكم قصيدةً من روائع شعر الشيخ أبو معاذ زيتون – حفظه الله – ينبِّه فيها لحقيقة محبَّة النبي – صلّى الله عليه وسلَّم – قائلا:
(( عذرًا رسول الله ))
يا صاحبّ النّهجِ القويمِ الأمجَدِ
و إمامَ كُلِّ مُسبِّحٍ وَ موحِّدِ
يا مُرسلاً للعالمينَ بِشِرعةٍ
من يَلتزِمها يَغدُ نعمَ المُهتدي
يا مِنحةَ الربِّ الكريمِ لأمّةٍ
لولاهُ لم تحلُم بنَيلِ السؤدُدِ
يا مَن له الخُلُقُ العظيمُ وَ ذكرُهُ
عِطرٌ يفوحُ شذاهُ في صُبحٍ ندي
يا مَن له الوجهُ الوَضيءُ وهديُهُ
للكائناتِ يُشِعُّ مِثلَ الفَرقَدِ
لِيُزيلَ عَن عينِ الوجودِ عَمايةً
وَيُصيِّرَ الحيرانَ دونَ تردُّدِ
يا مَن تَشرَّفَت القلوبُ بِحبِّهِ
قَفَزَت بهِ نحوَ المَقامِ الأسعدِ
مِن بحرِ أَشواقي سأغرِفُ غُرفةً
يمنايَ تَصبغُها بِشِعرٍ أَبجدي
عَلِّي رَسولَ اللهِ بَعدَ صَبابتي
أَروي بها ظَمَأي بِعذبِ المَورِدِ
لكن حبيبَ اللهِ عذراً إنّني
خَلَأَت قوافيَّ الحَيارى في يَدي
ماذا أقولُ وَ هَل لِمثلي طاقةٌ
في وَصفِ خيرِ العالمينَ مُحمَّدِ؟
إِن كانَ مَن وافى إليكَ مُبايعاً
وَ مُصافحاً يُمناكَ جاءَ لِيَهتدي
لم يَستطِع رغمَ الفَصاحَةِ كُلِّها
وَصفاً لوجهِكَ من جلالِ المَشهَدِ
فأنا على عُجَري وَضعفِ فصاحتي
وَضئيلِ علمي من أنا يا سيّدي؟
ياسيّدي من رامَ يَنشرُ وَصفَكم
سيحارُ حقاً أيَّ شيءٍ يبتدي؟!
عُذراً حبيبَ اللهِ لستُ بِشاعرٍ
لكِن مُحبٌّ يَقتفيكَ وَيَقتدي
بِأئمّةٍ نَقلوا حديثَكَ مُسنداً
والفوزُ في حملِ الحديثِ المُسندِ
يا سيّدي عندي سؤالٌ محزنٌ
أسفاً سأطرحُهُ بكلِّ تجرُّدِ
يا سيّدي هل من يُحبُّكَ صادقاً
يَبغي و يكذبُ أو يَغِشُّ ويعتدي
أيُهادنُ الطاغوتَ يبسِمُ ضاحكاً
في وجهِهِ كالعاشقِ المُتودِّدِ
لكن إذا لاقى أخاهُ رأيتَه
أرغى وأزبدَ كالهَصورِ المُزبِدِ
ياسيِّدي هل من يُحبُّكَ صادِقا
يُعلي صراخاً في فِناءِ المسجدِ
عندَ التّحاورِ مع أخيهِ يَشُنُّها
حَرباً ضروساً نارُها لم تَبرُدِ
نَمِرٌ على إخوانِهِ متمرِّدٌ
و على الكَفورِ تراهُ لم يتمرَّدِ
يعفو ويصفَحُ عن عدوٍّ غادرٍ
للمُجرمينَ تراهُ ممدودَ اليَد
لكنَّهُ لم ينسَ أَيَّ خطيئةٍ
من مسلمٍ جاءَت و إِن لم يَقصُدِ
يا سيّدي هل من يحبُّكَ عُمرُهُ
يُمضيهِ في لهوٍ بدونِ تعبُّدِ
في غفلةٍ تلقاهُ عن سُنَنِ الهدى
لا يستفيقُ سوى بيومِ المولدِ
فإذا أتى يومُ الولادةِ يزدَهي
هيمانَ بينَ مغرِّدٍ ومزغرِد
وإذا انقضى يومُ الولادةِ وانتهى
عادَت حليمةُ تحملُ الطّبعَ الرّدي
بالله
باللهِ هل حبُّ النبيِّ قصيدةٌ
عَصماءُ نسمعُها بصوتِ المُنشِدِ
بالله
باللهِ هل حبُّ النبيِّ هَريسةٌ
و سَكاكِرٌ تُهدى لكلِّ مُؤيِّدِ
بالله
باللهِ هل حبُّ النبيِّ بزينةٍ
نُتفاً ستجعلُها العواصِفُ في غدِ
إن لم يكُن حبُّ النبيِّ ديانةً
نحيي بها نهجَ النَّبيِّ الأرشَدِ
فلسوفَ تأتي الرّيحُ تذرو حَبَّنا
ذَرواً كما يُذرى رَمادُ المَوقِدِ
اللهم لا تجعَل حبَّنا لله ولرسوله حبَّ من تذروا تقلبات الدهرِ حبَّهم، اللهم اجعلنا ممن يستمعون أمرك فيلتزمون، ويستمعون نهيك فيجتنبون، إني داعٍ فأمِّنوا
اللهم إنا نسألك الجنَّة وما قرَّب إليها من قول أو عمل ونعوذ بك من النار وما قرَّب إليها من قولٍ أو عمل، نسألك الفردوس الأعلى من الجنَّة، نسألك مصاحبة نبينا محمد في أعلى جنَّات النعيم …