✍️ محمد مختار الشنقيطي
*من سلسلة أوراق الربيع العربي ( الورقة ١١ ) نُشرت بتاريخ ١-١١-٢٠١٦م
أستسمح المؤرخ الأميركي كرَينْ برينتونْ، فقد استعرتُ عنوان هذه الورقة من أوراق الربيع من عنوان كتابه “تشريح الثورات”. وهي ورقة تسعى إلى تشريح ثورات الربيع العربي، من حيث الماهية، والامتداد في الزمان، والتجذُّر في المكان.
كان الشاعر جلال الدين الرومي يقول “إن الناس يقدِّرون الربيع أكثر مما يقدرون الشتاء، لكن لا ربيع من غير شتاء يمهِّد له.” والربيع العربي لا يخرج عن هذه القاعدة، فقد جاء بعد شتاء طويل من القهر، كاد يسحق إنسانية الإنسان في هذه البقعة من العالم، لولا بقيةُ أحرارٍ حافظوا على شيءٍ من المناعة في جسد الأمة، وحفِظوا بقايا من الإرادة الحرة حيَّةً في الضمائر.
وقد اجتهد كثيرون في الكشف عن جوهر الثورات العربية. فذهب بعضهم إلى أنها انفجار اجتماعي يعكس التطور الديمغرافي والحضَري في البلاد العربية. ورآها آخرون بحثاً عن العزة، وانتصاراً للكرامة الجريحة. ورآها فريق ثالث ترجمةً لتحول فكري، وثمرةً لنضج سياسي، ودليلا على توسع مساحة الوعي لدى الشعوب. ومن المحللين من رأى الثورات العربية امتداداً لحروب التحرير الوطني، ورفضا للاستعمار السياسي الذي ورث الاستعمار العسكري. بينما فسَّرها غيرهم تفسيرا جديدا تماما، فرأوها أثراً جانبياًّ من آثار الإعلام الجديد، خصوصا مواقع التواصل الاجتماعي.
وكل هذه التفسيرات جزئية، وبعضُها يخلط جوهر الظواهر الاجتماعية بتجلياتها وآلياتها. فالربيع العربي هو كلُّ ما ذُكِر وأكثر. وهو ظاهرة أصيلة، وحُلْمٌ طال انتظاره، وحدثٌ عميقُ الجذور ستكون آثاره باقية. وربما يكون أبلغ من شخَّص الربيع العربي هو الأكاديمي التركي ورئيس وزراء تركيا السابق أحمد داود أوغلو، الذي كتب في مقال له صدر في مطالع الربيع العربي أن هذه الثورات “تدفقٌ طبيعيٌّ لحركة التاريخ.” ومثله الأكاديمي الأميركي أندرو تريلْ الذي كتب “إن التحول السياسي والاجتماعي في العالم العربي المعروف باسم الربيع العربي من أهم الأحداث التي أخذت مجراها في الشرق الأوسط منذ سقوط الإمبراطورية العثمانية.”
إن جوهر الربيع العربي هو طموح الإرادة الإنسانية إلى الحرية، فهو سعيٌ من الشعوب إلى إثبات الذات، وتحمُّل المسؤولية، والتخلص من عقدة الضحية، وإمساك مصائرها بأيديها. لذلك كانت عبارة “الشعب يريد” أهم شعار لهذه الثورات.. “الشعب يريد”، لا يتوسَّل، ولا يتسَّول، وإنما “يريد”!
فالصرح العربي المتهاوي ما كان ينفعه الترميم، ولا كانت تُجدي فيه المطالبة. بل كان متعينا إعادة بنائه من الأساس، وبمنطق المغالبة. لذلك انفجرت مجتمعاتُنا ثوراتٍ عاتيةً. ولم يحاول شباب الربيع العربي ترقيع الواقع، أو العمل من تحت سقف الاستبداد، كما درجتْ على ذلك القوى السياسية العربية بكل أطيافها خلال القرن العشرين، بل قرر الثورة على الواقع وتغييره. وما أعظم الفرق بين الثورة من أجل الحرية، وبين السعي إلى تعديل ميثاق العبودية.
ثم إن الربيع العربي سعيٌ للمصالحة مع الذات، من خلال بناء “الدولة المنسجمة” -بتعبير هيجل- التي تتَّحد فيها إرادة الحاكم وإرادة والمحكوم، والمصالحة مع بقية البشرية، من خلال الانخراط في مسار الحرية السياسية الذي انخرطت فيه أغلب المجتمعات البشرية.
ومن حيث التجذر في المكان، يمكن وصْف الربيع العربي بأنه ظاهرة متوسطية، فأربعٌ من دوله الخمس دول متوسطية، لذلك فهو إيذانٌ بأن عصر الفصل بين ضفتي المتوسط قد انتهى إلى غير رجعة، فإما أن يعيش أهل الضفتين معاً بكرامة وحرية، وإما أن يغرقوا معا في بُحيرة دموية. كما أنه إيذانٌ بأن عصر الاستعمار السياسي قد ولَّى، وأن سياساتِ أوروبا العتيقة في حماية المستبدين ووأْد ثورات الشعوب سياساتٌ خرقاءُ حمقاءُ.
لقد وفَّر الربيع العربي فرصة لأوروبا لبناء مصداقية أخلاقية، والتأثير الإيجابي في جوارها، وظهور جار مسؤول عند خاصرتها الجنوبية، وإيجاد بدائل للهجرة غير الشرعية التي تُقِضُّ مضاجع الشعوب الأوربية. وكان الربيع العربي -ولا يزال- فرصة للتلاقي على قاعدة إنسانية جديدة بين العالم العربي والعالم الأوربي، أو بين “الشرق الأوسط والغرب الأوسط” بتعبير الفيلسوف التونسي أبي يعرب المرزوقي. لكن الأوربيين استأسروا للمنطق الأميركي-الإسرائيلي، فلم يصوغوا رؤيتهم الخاصة للأحداث التاريخية الجارية على الضفة الجنوبية للمتوسط.
لقد تعاضد الاستبداد المحلي والإقليمي والدولي على الربيع العربي. وقد يكون ذلك إكراما من الله لهذه الأمة، لكي تأخذ حقها بيديْها دون مِنّة، وتجني ثمار تضحياتها غير منقوصة. وكان الذين وقفوا في وجه الربيع العربي صنوفا مختلفين في مزاجهم السياسي والأخلاقي:
– فأكثرهم جهالةً هو الثورة المضادة العربية التي جمعت بين الخطيئة الأخلاقية، والخطأ السياسي، والبلاهة الاستراتيجية.
– وأشدهم نفاقاً هو السياسة الأميركية التي بذلتْ غاية الجهد في إفشال الربيع العربي في السرِّ، والتظاهر بنصرته في العلن!
– وأكثرهم صفاقةً هو روسيا التي جاهرتْ بالإثم، واتخذت دماء شعوبنا أداة لإثبات الذات أمام الغرب، تباكيا على ذكرى الإمبراطورية السوفياتية الهالكة.
– وأكثرهم جُبناً وقِصَرَ نظرٍ هم الأوربيون، الذين فرَّطوا في استثمار الربيع العربي لفتح صفحة إنسانية جديدة مع الجوار العربي، والمسلم عموما.
– وأكثرهم أنانيةً هم أدعياء “الليبرالية” و”العلمانية” العرب الذين أصرُّوا على حرمان الإسلاميين من الحكم، ولو بحرمان الشعب كله من الحرية.
– وأشدهم غباءً هو إيران التي فتحت في خاصرة الربيع العربي حربا طائفية هوجاء، ومعركة تاريخية غبيَّة، تُحيي الأموات وتقتُل الأحياء.
وأخطر هذه الأصناف هم الأميركيون الذين سعوا إلى تحويل الثورات العربية مَصْهرة دموية، وحربا أبدية، لا غالب فيها ولا مغلوب. وزاد من هذا الخطر أن العديد من الثوار وداعميهم جارَوْا أميركا في موقفها المُرائي، وتظاهروا بتصديقها في قولها الذي يكذِّبه الفعل، على مذهبها في إظهار الصداقة وإسرار العداوة. وما أبلغ المتنبي في قوله:
ومن العداوة ما ينالك نفْعُهُ / ومن الصداقة ما يضرُّ ويُؤلمُ
وفي قوله:
ومِن نَكَدِ الدنيا على الحُرِّ أن يَرى / عدوًّا له ما مِن صداقته بُدُّ
أما من حيث الامتداد في الزمان، فإن الربيع العربي مفاصلة من الشعوب مع الاستبداد، وهي صائرة إلى غايتها الحتمية من العدل والحرية. فالوقت في صالح الثورات، وقد يستطيع أعداء الشعوب تأجيل ثمار هذه المفاصلة، ورفْعَ ثمنها من الدماء، لكنهم لا يستطيعون صدَّها عن غايتها. وحينما يتلفع الربيع العربي بالدم القاني، فذلك دليل على أنه يحمل معنى الصراع الوجودي والتغيير المصيري، وأنه ليس مجرد مهرجان سياسي مخملي.
لقد أثمر الربيع العربي حتى الآن نماذج شتى من الثمار السياسية، ففي تونس تحوُّلٌ ديمقراطي متأرجح الميزان، وفي مصر فشلت الثورة المضادة ولم تنجح الثورة بعدُ، وفي اليمن وليدٌ ثوريُّ غدرتْ به القابلة لحظة ميلاده ثم جلستْ تذرف الدمع عليه وتحاول إنقاذه، وفي ليبيا اجتثاثٌ للسلطة وفراغٌ مفتوح، وفي سوريا انسدادٌ دمويٌّ بسبب كثرة اللاعبين وتضارُب أهوائهم. لكن المتأمل من وراء هذا التنوع يرى مسارا واحدا صوب الحرية، ومسيرة واثقة لا رجعة معها للدكتاتورية.
ويبقى ألدُّ أعداء الربيع العربي هو ثقافة اليأس والجبرية، وضَعْف الأمل في المستقبل، والسلبية بدعوى الحياد. لذلك نختم بجملة للشاعر الرومي، كما افتتحنا بجملة له “إنَّ لَدَى نسائم الفجر سراًّ تريد البوْح به إليك، فلا تَعُدْ إلى النوم. “