#خطبة_الجمعة
#الشيخ_محمد_أبو_النصر
وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور
🕌 أحد مساجد ريف حلب المحرر.
⏱ المدة: 33 دقيقة.
التاريخ: 30/ محرم/1439هـ
الموافق: 20/ تشرين الأول /2017م
🔴الأفكار الرئيسة في الخطبة الأولى:
1⃣ الله وضَّح لنا حقيقة الدنيا
2⃣ قصة عن أبي العتاهية وهارون الرشيد.
3⃣ أين من كان قبلنا … أين الملوك؟!
4⃣ قيمة الدنيا ومدَّتها بالنسبة إلى الآخرة.
5⃣ علامة من تملك حبُّ السلطة والدنيا قلوبهم.
6⃣ الجنود الأغبياء… عبدٌ أذهب آخِرته بدنيا غيره.
7⃣ الطواغيت الذين ماتوا بعزِّهم… وعدل الله!
🔴 الأفكار الأساسية الواردة في الخطبة الثانية:
8⃣ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا.
9️⃣ الزهد الحقيقي.
🔟 أحوال الناس مع الدنيا.
الخطبة الأولى:
الحمد لله غير مقنوطٍ من رحمته، ولا ميؤوسٍ من مغفرته، أحمده سبحانه وأشكره على سوابِغ نعمته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له توعد من عصاه بعقوبتَه، ووعد من اتقاه بجنَّته، وأشهد أن نبينا وحبيبنا وقائدنا محمداً رسولُ الله كاملٌ في خلقته، صادقٌ في نبوَّته، عظيمٌ في بشريَّته، صفيُّ ربِّه من بريَّتِه ، ومصطفاه من خِيرته، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه المنقادين إلى طاعته، المتمسِّكين بدينه ومِلَّته، والتابعين ومن سار على نهجهم واستمسك بسنة النبيِّ، وحافظ على هديِه وشِرعَتِه … أمَّا بعد إخوة الإيمان:
أعتذر منكم عن غيابي عنكم وقد انشغلت بتجهيزِ دارٍ استأجرتها لأنتقِل إليها، ولعلَّ جُلَّكم مِثلي يُعاني مُشكلَة التنقُّلِ كُلَّ بضعةِ أشهرٍ من دارٍ إلى دار، والحمد لله أولا وآخِرًا على أن أبقانا في هذه الحرب ممن يسكنون الدور، ولم يكتُب علينا سُكنى الخِيام…
أيها الأحبَّة الكرام، كلٌّ مِنَّا عندما يبدأ بالانتقال إلى دارٍ جديدة تراه يبدأ أوَّلا بتنظيفها وترتيبها وتجهيزها قبل أن يحُطَّ رحاله فيها، ثمَّ لا يلبث أن يُجهِّز ويُزخرِف ويُحسِّن أكثر وأكثر متفانيًا بالذاتِ في خدمة المكان الذي سيستقبل ضيوفه فيه، مُجمِّلًا له ومعتنيًا به مزيد عناية، لكي لا يُرى منه إلا الجميل والحسن ولكي لا يُطَّلع على عوراته ومثالِبه.
كنَّا نجهز الدار التي سننتقل إليها، وأمُّ العيال تقول صلِّح تِلك وجهِّز هذا واشتري هذه وجمِّل الغرفة الفلانية والمكان الفلاني لاستقبال الضيوف…
فقلت لها: تمهَّلي قليلًا أيُنفقُ عاقِلٌ كلَّ ماله على دارٍ استأجرها أشهرا لا يدري أيمُدُّ الله في عُمره ليسكنها هذه الأشهر؟!!
تفكَّرت في الأمر أكثر أيها السادة فنظرتُ في حال الدنيا وحالنا فيها، وكم يُشبه حالنا حال هذا المستأجِر الذي ترك أشهرًا وسيترك!!
كم يشبه حالَ الجاهل الذي صرفَ جُهده واستغرقَ وقتَه وأنفق ماله على دارٍ استأجرها شهرين أو ثلاثة!! كم يُشبِه حاله حالنا مع هذه الدنيا، وهي دارُ عبورٍ سريع ننشغل بها وننسى دار المُقامة والمستقرِّ والمعاد!!
نُزخرِفُ هذه الدنيا ونُصلِحها وننسى تهيئة المكان الذي سننتقل إليه ونستقرُّ فيه، ننسى مكان الاستقرار، وننسى تهيئة الزادِ الذي سيأتي من يُفتِّشه ويُحاسبنا عليه فإمَّا نعيمٌ وإمَّا جحيمٌ وسعير.. ((إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ )) [الإنفطار:13-14]
اعمل ما شئت فإنَّك ميِّت … وأحبب من شئت فأنت مفارِقه
اعمل ما شئت فإنَّك ميِّتٌ لا محالة، وأحبب من شئت فأنت مفارِقه لا محالة..
أذكر في هذا قصَّةً أيها السادة [ ذكرها ابن كثير في البداية والنهاية 10/236] هارون الرشيد –رحمه الله – بنى قصرًا فأبدع في بنائه وأنفق عليه وزيَّنهُ وزخرفه، ثمَّ دعا إليه الناس من الوجهاء والشعراء والكل يمدح ويُثني ويُظهر إعجابه بهذا القصرِ وما فيه، إلَّا أبا العتاهية، نظر إليه هارون الرشيد فرآه ساكتًا مُطرقًا رأسه، فقال له هارون: ما عندك يا أبا العتاهية؟ فرفع أبو العتاهية رأسه قائلا:
عِشْ مَا بَدَا لَكَ سَالِمًا **** فِي ظِلِّ شاهقة القصور
يُغدى عليك بما اشتهيت *** لدى الرواح إلى الْبُكُورِ
ثم أطرق، فقال له هارون: هيه!! [وقد أعجبه الكلام]
فرفع أبو العتاهية رأسه وهو يبكي مُكمِلًا:
فَإِذَا النُّفُوسُ تَقَعْقَعَتْ *** عَنْ ضِيقِ حَشْرَجَةِ الصُّدُورِ
فَهُنَاكَ تَعْلَمُ مُوقِنًا ******** مَا كُنْتَ إِلَّا في غُرور
فبكى هارون الرشيد – رحمه الله – ، فَلَامَ الناسُ أبا العتاهية على ذلك، فقال هارون الرشيد: “دعوه! فما صدَقني غيره”.
والله تعالى _ أيها السادة – قال وقوله الحق: ((اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ)) [الحديد:20].
الدنيا – أيها السادة – متاع الغُرور لمغرورٍ جاهلٍ لا يوقِن باليوم الآخِر، كمَثَلِ من يغترُّ بخُضرةِ الأرض وبهائها وقد أصابها غيث السماء؛ تنبتُ الأرض وتخضرُّ فيُعجب بها الجاهِل ويظنُّها ستبقى وستدوم هكذا خضِرة، فلا تلبث هذه الخُضرة أن تنقلب صُفرةً وأن تيبس ((ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا)) يأتي وقت الحصاد فترى هذه الأرض التي أعجبت النَّاس وغرَّت الكُفَّار وقد أصبحت حُطامًا، ((وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ)) في الآخرة حيثُ المستقر، إمّا (عَذَابٌ شَدِيدٌ) أو (وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ) …اللهم اكتُبنا في أهلِ مغفرتِك ورِضوانِك.
أيها السادة هذه الدنيا التي نغترُّ بها ونتقاتل عليها ونتخاصم لأجلها، هلَّا فكَّرنا بنسبةٍ وتناسب كم تساوي أمام الآخرة إن كنَّا مؤمنين حقًّا باليوم الآخِر؟! والله تعالى يقول: ((فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ)) [التوبة:38]
كم سنعيش في هذه الفانية؟ كم سنعيش في هذه الحياة الدنيا؟ خمسين سنة؟ سبعين؟! مئةُ سنة؟! ما قيمة المئة أمام اللانهاية؟! ما قيمة المئة سنة أمام اللانهاية!؟ ما قيمة المئة سنة أمام أبدِ الآبدين؟ ما قيمة الذي ينتهي أمام الذي لا ينتهي؟
وفي هذا أخرج التِّرمذيُ، وقال : (( حسن صحيح )) عن عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – ، قَالَ : نَامَ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عَلَى حَصيرٍ، فَقَامَ وَقَدْ أثَّرَ في جَنْبِهِ ، قُلْنَا : يَا رَسُولَ اللهِ ، لَوْ اتَّخَذْنَا لَكَ وِطَاءً [أي فرشةً طريَّةٍ وثيرة]. فَقَالَ – روحي فداه – : (( مَا لِي وَلِلدُّنْيَا ؟ مَا أَنَا في الدُّنْيَا إِلاَّ كَرَاكِبٍ اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا ))
هذا مقدار بقائنا في الدنيا بالنسبة للآخرة، كراكبٍ مرَّ بشجرةٍ فاستظلًّ مرتاحًا تحتها دقائق ثمَّ أكمل سيره… أين آباؤنا؟ أين أجدادنا؟ أين من كان قبلنا؟ أين الملوك؟ أين الطواغيت؟ أين الجبابرة؟
أين الملوك ذَوو التيجان من يمنٍ *** وأين منهم أكاليلٌ وتيجانُ ؟
وأين ما شاده شدَّادُ في إرمٍ *** وأين ما ساسه في الفرس ساسانُ؟
أتى على الكُلِّ أمر لا مَرد له *** حتى قَضَوا فكأن القوم ما كانوا
أين القذَّافي الذي لقَّب نفسه ملك ملوك أفريقيا وجعل لنفسه تاجًا من ذهب، أين حافظ أسد الذي قتل عشرات الآلاف من الأبرياء ليبقى في السلطة؟ أين من تفرعنوا في هذه الدنيا متجبِّرين من ملوك العرب والعجم السابقين؟ تجبَّروا سنينًا ثم غدوا تحت الأرض،ذهبوا إلى دار المقامة، فإمَّا نعيمٌ وإمَّا جحيم…
أتى على الكُلِّ أمر لا مَرد له *** حتى قَضَوا فكأن القوم ما كانوا
أين من زخرف وعمَّر، أين من شاد وبنى، أين من عمروها وكأنَّهم سيُخلَّدون فيها؟!
هذه الدنيا أيها السادة لابدَّ أن يعرف المؤمن وأن يعي حقيقة قيمتها ومعناها، ولنسمع في هذا كلام رسول الله – صلى الله عليه وسلَّم – كيف وصفها، وفي الحديث الصحيح الذي أخرجه الإمام مُسلم عَنْ جابرِ بن عبد الله – رضي الله عنهما – : «أن رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- مَرّ بالسُّوقِ ، داخلا من بعض العَوَالي، والناس كَنَفَتَيْه، فمرَّ بِجَدْيٍ أَسَكَّ [ مشوَّه ] مَيِّتٍ، فتناوله وأخذ بأُذنه، ثم قال : أَيُّكم يُحِبُّ أَنَّ هذا له بدرهم [ والدرهم مبلغٌ قليلٌ لا قيمة عظيمة له ] ؟ قالوا : ما نحب أَنَّه لنا بشيء، ما نصنع به ؟ إِنه لو كان حَيّا كان عيبا فيه أَنَّهُ أَسَكَّ [جيفة ومشوَّه!!]. فقال – روحي فداه – : فوالله لَلدُّنيا أَهْونُ على الله من هذا عليكم»
جديٌ مشوَّهٌ ميِّت لا قيمة له، الدنيا بكلِّ ما فيها أهون على الله من هذا عليكم، ولهذا ففي الحديث الذي أخرجه الإمام التِّرمذيُ، وقال : (( حديث حسن صحيح )) عن سهلِ بن سعد الساعدي – رضي الله عنه – ، قَالَ : قَالَ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : ((لَوْ كَانَت الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ الله جَنَاحَ بَعُوضَةٍ ، مَا سَقَى كَافِراً مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ))
هذه الدنيا التي نتعادى من أجلها، ويتقاطعُ النَّاس بأسبابها، ويكذبون ويحتالون ويتكبّرون من أجل حُطامها، يسفك بعضهم دماء بعضٍ لأجلها، هذه الدنيا كلُّها لا تساوي عند الله جنَاح بعوضةٍ ولا أقلَّ مِن ذلك، ولكن أين من يؤمن بهذا حقَّا، أين من يوقن بهذا حقًّا، والناس يقتل بعضهم بعضًا لأجل لُعاعَة الدنيا!!
أين من يؤمن بهذا حقًّا وفي الأسبوع الماضي كما فيما قبله رأينا كيفَ سُيِّرت الأرتال وجُنِّدت الجنود المساكين، لأجل ماذا؟؟ لأجل تقاتل أصحاب النفوذ في الشمال والغرب على معابر المكوس وحواجز النصب، والضحية دائما أيها الأحبَّة من الجنودِ الأغبياء قليلي الدين، الذين أضاعوا طريق الحق، فيقودهم أسيادهم وكبرائهم إلى شرِّ الدنيا والآخرة… يخسرون آخرتهم بدنيا غيرهم، وفيما أخرجه ابن ماجه مرفوعًا إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – : ((مِنْ شَرِّ النَّاسِ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، عَبْدٌ أَذْهَبَ آخِرَتَهُ بِدُنْيَا غَيْرِهِ))…
ليته استمتع أو انتفع! كلَّا، فقط أضاع آخرته بدنيا غيره.
يا ترى هل يؤمن هذا الجندي الذي يُطيع أسياده بالله وباليومِ الآخِر؟!
يا ترى هل يؤمن هؤلاء القادة المتقاتلون المُختلِفون المفرِّقون لجمع المسلمين المُضعِفون لعزيمة المُسلمين، يا ترى هل يؤمنون بربٍّ يعلمُ السرَّ وأخفى؟! هل يؤمنونَ بالله وباليوم الآخِر حقًّا؟!!
رحم الله الحسن البصري – من أئمة التابعين رحمهم الله – إذ نظر إلى بعض أهل زمانه ورأى تكالبهم على الدنيا، وتقاتلهم عليها وقطيعتهم لأرحامهم لأجلها وغفلتهم عن الآخرة… فقال: “أمؤمِنون بيوم الحساب هؤلاء؟! كلَّا، كذبوا ومالِك يوم الدين”.
لو كانوا يؤمنون بالله حقًّا، ولو كانوا يؤمنون بيومِ الحسابِ حقًّا لما بدر هذا منهم؛ لما قطَّعوا أرحامهم، ولما سفكوا دماءهم، ولما قاتلوا جيرانهم، لأجل لُعاعة الدُنيا!!
قلوبٌ امتلأت بحب الدنيا وغفِلت عن الآخِرة، بل عن ربِّ الآخرة – جلَّ وعلا سبحانَه – بل إنَّ بعضهم يأتي بعد هذا ليُزاوِد بآيات الله وبكلامه، يريد منّا أن نُصدِّق ما نسمع ونكذِّب ما نرى، ونحن نرى مظاهر غلبة حبِّ الدنيا على القلوب، واستيلائها على النفوس، تلك المظاهِر التي كشفت البعض وقد طغى على قلوبهم حبُّ الدنيا، فلا همّ لهم إلَّا البحث عن الجاه العريض، والشهرةِ الواسعة والسيطِ العالي، ولو كان ذلك على حساب الدينِ والفضيلة… فترى أحدهم يتقلَّب في رأيه بل في دينه وثوابته تارةً وتارة، همُّه الجاه والسلطة والشهرة والرياسة… نعم أيها السادة، هذا حالُ من طغى حبُّ الدنيا على قلبه أيًّا كان قوله وتظاهرُه!
وآخرون ليس لهم همٌّ سوى جمع الأموال، وتضخيم الثروات؛ لا يُبالون أمِن حلالٍ أو حرام، لا يدرون أن الدنيا لو دامت لدامت لمن قبلهم، لا يدرون أن عليهم وزر الحرام، وللورثةِ التمتُّع به، لا يدرون أن الدنيا ليست من الآخرة شيئا، وأن كلَّ الدنيا لن تنسيهم عذاب ساعةٍ من عذابِ الآخِرة، وقد روى مسلم في صحيحه عن أنس – رضي الله عنه – قال: قَالَ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : (( يُؤْتَى بِأنْعَمِ أهْلِ الدُّنْيَا مِنْ أهْلِ النَّارِ يَوْمَ القِيَامَةِ، فَيُصْبَغُ في النَّارِ صَبْغَةً [أي يُدخل في النار ويُخرج كما يُغمس الثوب في الصِّباغ] ، ثُمَّ يُقَالُ : يَا ابْنَ آدَمَ ، هَلْ رَأيْتَ خَيْراً قَطُّ ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ نَعِيمٌ قَطُّ ؟ فَيَقُولُ : لاَ وَاللهِ يَا رَبِّ…)) [ ينسى كلَّ نعيم الدنيا، يقول لم أر نعيمًا قط، وهو مِن أنعم أهل الأرض، بصَبغةٍ صُبِغها في النار… ثمَّ أتبع روحي فداه قال: ] (( وَيُؤْتَى بِأشَدِّ النَّاسِ بُؤسَاً في الدُّنْيَا مِنْ أهْلِ الجَنَّةِ ، فَيُصْبَغُ صَبْغَةً في الجَنَّةِ ، [أي يُدخل في الجنَّة لحظات ويُخرج منها …] فَيُقَالُ لَهُ : يَا ابْنَ آدَمَ ، هَلْ رَأيْتَ بُؤساً قَطُّ ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ شِدَّةٌ قَطُّ ؟ فيَقُولُ : لاَ وَاللهِ، مَا مَرَّ بِي بُؤْسٌ قَطُّ، وَلاَ رَأيْتُ شِدَّةً قَطُّ )) ا.ه
هكذا هي الآخرة بالنسبة للدنيا، لا يظُنَّن أولئك الذين يتناهشون الدنيا بأنَّ هذه السنوات المعدودة في الدنيا ستنسيهم ساعةً من عذاب الله.
كثيرٌ من الناس يسألنا، ما بالنا نرى عديدًا من الملوك والجبابرة والطواغيت، كثيرٌ منهم مات وهو بسلطانه وعزِّه وجاهه، كثيرٌ منهم هرب بمئات الملايين وعاش وتنعَّم بها خارج البلاد، ثمَّ مات ولم ينتقم الله منه ولم يقتصَّ للمظلومين منه فيما يبدو ويظهرُ للناس، فكيف هذا وأين عدلُ الله؟!!
فنجيب أيها السادة بأن هذه الدنيا ليست دار العدلِ المُطلق، إنَّما العدل الحقيقي يوم الحساب ودار العدل المطلق هي الآخِرة، هنالِك مَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ، ذاك الذي ينتظرهم في الآخرة وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاعٌ وغرورٌ وشيءٌ لا يُذكر، فإيَّاك أخي المُسلم أن تغتر بقليل الدنيا الزائل الذي متع الله به الظلمة، لا تغترَّ بسنواتٍ مرَّت عليهم، فليست الدنيا من الآخِرة إلّا قليل القليل، ((قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا)) [النساء:77].
وقد أخرج الإمام مُسلم، عن المُسْتَوْرِد بن شَدَّاد – رضي الله عنه -، قَالَ: قَالَ رسول الله – صلى الله عليه وسلَّم -: (( مَا الدُّنْيَا في الآخِرَةِ إِلاَّ مِثْلُ مَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ أُصْبُعَهُ في اليَمِّ [ أي في البحر ]، فَلْيَنْظُرْ بِمَ يَرْجِعُ ! ))… بم تعود اصبعك من البحر لو غمستها فيه وأخرجتها؟ كمستُنقِصُ من البحر؟!! هكذا هي الدنيا الفانية من الآخرة الأبديَّة الباقية – أخي المؤمن – فانظر فيم تعمل وأي بيتٍ ستزيِّنُ وتجهِّز …
((يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ)) [فاطر:5].
يا أيها الإخوة، أيها الأحبَّة: ((وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)) [العنكبوت:64] أي: إن الدار الآخرة هي الحياة الحقيقية، هي الحياة الباقية، هي الحياة الهانئة التي لا زوال لها ولا انقضاء… فاختر لنفسك بم تتجهز للرحيل، وللانتقال إلى دار المُستقرِّ التالية ((فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41))) [النازعات:37-41].
اللهم إنا نسألُكَ جنَّة المأوى وما قرَّب إليها من قولٍ وعمل ونعوذُ بك من النارِ وما قرَّب إليها من قولٍ أو عمل… أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه فيا فوز المستغفرين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وكفى وصلاةً وسلامًا على عبده الذي اصطفى، عباد الله خير الوصايا وصيّةُ ربِّ البَرايا: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ) [النساء:131]. فاتَّقوا اللهَ عبادَ الله، فبِتقوى اللهِ العِصمة من الفِتن، والسلامة من المِحَن… واعلموا عباد الله أن الله تعالى أمرنا قائلًا: (فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ) [فاطر:5].
أيها الأحبَّة: ما زال حديثنا عن الدنيا، ما زال حديثنا عن هذه الفانِية التي تكالب عليها المتكالِبون، وجهل حقيقتها الجاهلون، وغفِل عن آخرتِها الغافلون، هذه الدنيا أيها السادة، أساء البعض فهم توجيه الله ورسوله للتعامل الصحيح مع الدنيا.
البعض فهِم أن الزُّهد في الدنيا يعني العجز والكسل والخنوع والخضوع وإضاعة النَّفسِ والعيال!!
ترى البعض يدَّعي كذبًا أو يفهم خطأً الزهد في الدنيا، فتراه وقد قعد عن العمل، تراه وقد أضاع من يعولُ من زوجتِه وبنيه وأهله، يفهم الزهد في الدنيا، عجزًا وكسلًا وخضوعًا وخنوعًا وقعودًا، ورسول الله – صلّى الله عليه وسلم – يقول: (المؤمن القوي خيرٌ وأحبَّ إلى الله من المؤمن الضعيف ) والله تعالى يقول – وقوله الحقّ : ((وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ)) [القصَص:77].
وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا، فأنت بشرٌ ولست ملاك، أنت إنسانٌ لك رغائب وشهوات، أتى الإسلام، وأتى الشرع، وأتت التوجيهات الربانيَّة والسنَّة النبويَّة لكي توجِّهك إلى الخير فيها، فتُحِلُّ لك الطيِّباتِ وتُحرِّمُ عليك الخبائث لكي تكون زاهدًا حقيقيًّا في الدنيا، تتنعَّم من غيرِ سَرفٍ فيما أحل الله وتجتنب ما حرَّم …
الزهد الحقيقي في الدنيا – أيها الأحبَّة – لا يعني الخنوع ولا الفقر ولا الضَّعف ولا الذِّلة، فهذا ليس زُهدًا ولا يرضى الله لمُسلمٍ هذا!
الزهد الحقيقي هو أن تكون الدنيا في يدك لا أن تكون في قلبك.
عثمان بن عفَّان – رضي الله عنه – كان من أغنى الصحابة وأكثرهم مالًا، جهَّز جيش العُسرة من ماله، وقال عنه رسول الله – صلّى الله عليه وسلَّم – يومها ((مَا ضَرَّ عُثْمَانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ اليَوْمِ )) [حديث حسن أخرجه التِّرمذيّ] ، وكان – رضي الله عنه – يوصَفُ بالزهد لأنّ الدنيا كانت في يده، ولم تكن في قلبه؛ لم يتعلَّق قلبه بحبِّ الدنيا… فالزاهد الحقيقي لا يُقاتِلُ إخوانه لأجل الدنيا، ولا يُعادي أرحامه لأجلِ الدنيا؛ الزاهِد الحقيقي، يصبِر وإن جار عليه إخوانه، لأنَّ الدنيا في يده وليست في قلبه، فلا يتعلَّق بها، ولا ينشغِل بالزائل عن الباقي..
لذلك – أيها الأحبَّة – امتدح رسول الله – صلّى الله عليه وسلَّم – هذا النوع من الناس، ممن الدنيا في يدهم يجعلونها طاعةً لله ويسخِّرونها نُصرةً وخِدمةً لدين الله، فقال – روحي فداه كما في الحديث الذي أخرجه التِّرمذيُّ وقال ” حسن صحيح “- :
((إنَّمَا الدُّنْيَا لأرْبَعَةِ نَفَرٍ: [يصِف رسول الله حال الناس في الدنيا مع الأموال فيقول، إنَّمَا الدُّنْيَا لأرْبَعَةِ نَفَرٍ: ] عَبْدٍ رَزَقَهُ اللهُ مَالاً وَعِلماً، [ أي دِينًا ] فَهُوَ يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ، وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ، وَيَعْلَمُ للهِ فِيهِ حَقَّاً، فَهذا بأفضَلِ المَنَازِلِ. وَعَبْدٍ رَزَقهُ اللهُ عِلْماً، [أي دينًا وتقوى وخشية لله] وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالاً، فَهُوَ صَادِقُ النِّيَّةِ، يَقُولُ: لَوْ أنَّ لِي مَالاً لَعَمِلتُ بِعَمَلِ فُلانٍ، [أي المُصلِح] فَهُوَ بنيَّتِهِ، فأجْرُهُمَا سَوَاءٌ. [يقول لو رزقني الله مالًا، لجهَّزت غازيًا، لبنيتُ مسجِدًا، لكفلت يتيمًا، لأنفقت على حلقة قُرآن، لأعنتُ مُحتاجًا… ينوي وهو فقير، فهو بنيَّته – إن كان صادِقًا – فأجرهما سواء.
أمّا الصنفان الباقيان، فيُكمل رسول الله – صلّى الله عليه وسلَّم واصفا لهما..]
وَعَبْدٍ رَزَقَهُ الله مَالاً، وَلَمَ يَرْزُقْهُ عِلْماً، فَهُوَ يَخبطُ في مَالِهِ بغَيرِ عِلْمٍ، لاَ يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ، وَلاَ يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ، وَلاَ يَعْلَمُ للهِ فِيهِ حَقّاً، فَهذَا بأَخْبَثِ المَنَازِلِ. [والعياذُ بالله، استخدَم نعمة الله في معصية الله! … أمّا الصنف الرابع: ] وَعَبْدٍ لَمْ يَرْزُقْهُ اللهُ مَالاً وَلاَ عِلْماً، [لا مال ولا دين] فَهُوَ يَقُولُ : لَوْ أنَّ لِي مَالاً لَعَمِلْتُ فِيهِ بعَمَلِ فُلاَنٍ، [أي بعملِ ذلِك المُفسِد، ينوي، لكُنتُ ارتكبتُ المنهيَّات، وفعلتُ المعاصي والموبِقات، ولتطاولت على الناس …] فَهُوَ بنِيَّتِهِ، [بنيَّته الفاسدة السيئة نال الإثم ولم يتقلَّب في ملذَّات الدنيا] فَوِزْرُهُمَا سَوَاءٌ)).
بهذه المعايير – أيّها السادة – أراد منَّا النبي – صلّى الله عليه وسلَّم – أن نفهم الزُهد بالدنيا؛ فالدنيا قوَّةٌ، تنفع المسلمين وتعينُهم على دينهم، ما دامت الدنيا في يدنا وليست في قلوبنا، أمَّا إن كانت الدنيا عامِرةً في قلوبنا، نتباغض، ونتقاتل عليها، فتلك والعياذ بالله الحالِقةُ تحلِقُ الدين.
قال تعالى: (مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ* وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) [العنكبوت:5-6] .
أمّا الصنف الآخر فحالهم في قوله تعالى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ *أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [هود:15-16]
ليس لهم في الآخِرة إلا النَّار لأنهم شغلوا قلوبهم وعقولهم في الدنيا وعصوا ربهم، وغفِلوا عن دينهم، وكانت الدنيا أكبر همِّهم، تسابقوا فيها وركضوا فيها حتى وقعوا في حُفَر قبورهم… اللهم لا تجعلنا منهم ولا تحشرنا معهم، اللهم اجعلنا ممن الدنيا في أيديهم وليست في قلوبهم، اجعلنا اللهم من الزاهدين في الدنيا حقًّا، ارزقنا من حيث لا نحتسِب، وأغننا من حيث لا نحتسِب…
إني داعٍ فأمِّنوا