تعود بدايات هذا الكتاب إلى أكثر من سبعَ عشرةَ سنةً خلَتْ، حين كان ولداي الكبيران في أول سِني حياتهم، وكذلك أبناء وبنات عدد ممن عرفت يومئذ من الأصدقاء.
رأيت -يومها- ندرة ما يعثر عليه المرء من كتابات عَمَلية تساعد على تربية الأبناء (على شدّة حاجة الآباء والأمهات إلى مثل هذه الكتابات) فدوّنتُ عدداً من الأفكار التي خطرت ببالي وجمعتها في وُرَيقات سميتها <نظرات في تربية الطفل المسلم>، ثم صوّرتُها ووزّعت نسخاً منها على الأصدقاء والمقربين.
ولم أُرِدْ لها النشر ولم أظن أنها تصلح له، ولكنّ بعض مَن رآها نقلها إلى سواه فلقيت بعض الانتشار، ثم أخذها محررٌ في صحيفة محلية فنشرها على حلقات، وصوّرَتْها مديرة مدرسة -فيما علمت- فوزّعَتْها في مدرستها. فخطر لي -بعد كل هذه السنوات- أن أعود إليها فأصلح أمرها وأعدّها للنشر، لعل بعض الناس ينتفع ببعض ما فيها فيكون لي في الإصلاح سهم وفي الخير نصيب.
فذهبت فأعدت صياغة كل فكرة لتغدو أكثر وضوحاً، وزدت عليها مثلَها أو أكثر قليلاً فبلغَتْ مئةً وعشر فِكَر، وقد كانت بضعاً وأربعين.
وكان اسمها <نظرات>، فاستكبرتُ هذا الاسم إذ لا يصح إلاّ من خبير مختص، فسميتها <نصائح> لأني وجدتها أقربَ إلى النصيحة؛ مَن شاء أخذ بها ومَن شاء تركها إلى سواها من أساليب التربية وطرقها.
وما هي إلا اجتهاداتُ واحدٍ من الآباء الذين أحسوا بثقل أمانة التربية واستشعروا عِظَم مسؤوليتها، لا أزعم لها الكمال ولا أدّعي أني أجدتُ فيها كلها أو أصبت. كما لا أزعم أنني أدرجت في هذه الوُرَيقات كل ما يحتاج إلى معرفته أو الانتباه إليه الوالدان، ولقد بدأتُ (كما قلت آنفاً) بأقل من خمسين فكرة، ثم ما زلت أضيف إليها وأضيف، وفي كل يوم تخطر ببالي أفكار جديدة، حتى بلغَتْ ما ترون بين أيديكم، ولو أردت تأخير إصدار الكتاب حتى أقتنع أنْ لم يبقَ مزيدٌ ليُضاف إليه لما صدر أبداً.
وبعد، فإن مما يُروى في بعض كتب التربية أن سيدة سألت -ذات مرة- مربياً مشهوراً:
ما هو الوقت المبكر الذي أستطيع أن أبدأ فيه تعليم طفلي؟
فسألها المربي: متى سيولد هذا الطفل؟
فأجابت السيدة: يولد؟ إنه الآن في الخامسة من عمره.
فصاح المربي: ماذا تقولين أيتها السيدة؟! لا تقفي هنا تتحدثين. أسرعي إلى البيت؛ لقد ضاعت منك أحسن خمس سنوات في حياته!
إن شخصية الإنسان تتبلور وتتحدد معالمها خلال السنوات السبع الأولى من حياته كما يقول أهل التربية، وهذه السنوات القلائل التي تسبق دخول الطفل إلى المدرسة هي المرحلة التي تنغرس فيها في نفس الطفل كل المبادئ والقيم التي يحملها معه طول حياته؛ سواء في ذلك مبادئ الخير أو مبادئ الشر، والقيم الصالحة أو القيم الفاسدة.
فمن أجل ذلك أميل إلى تسمية السنوات الأربع من عمر الطفل التي تمتد بين الثالثة والسادسة (والتي تسبق دخول المدرسة مباشرة) <سنوات الذهَب> في تربية الأطفال؛ مَن فوّتَ فيها فرصةَ التكوين الصحيح لطفله كاد ألاّ ينجح في أي علاج من بعد! ومن أجل ذلك ترون أن القسم الذي اهتم بهذه المرحلة من العمر 10 في هذا الكتاب هو الأكثر ازدحاماً بالنقاط والأفكار، ويكاد يمثّل ثلث الكتاب.
فلا تفوِّتوا فرصةً قد تندمون عليها العمرَ كله، وعالجوا في هذه السن كل عيب وازرعوا أساسَ كل فضيلة وكل خلق قويم. ثم إن استفدتم من هذا الكتاب (ولو بسطر منه) فامنحوني مِنّةَ الدعاء بظهر الغيب، وادعوا لي الله أن يرزقني الهمة والوقت ويوفّقني إلى إخراج ما أخطط له من كتابات أكثر تفصيلاً لبعض القضايا التربوية المهمة التي أَجمَلها هذا الكتاب.
مجاهد ديرانية
رجب 1422