نشرت قبل يومين مقالة مفصلة أوضحت فيها رأيي في الائتلاف الوطني الجديد الوليد، ثم نشرت أمس تعليقاً موجزاً علقت فيه على العاصفة التي أثارها بيان كتائب حلب، ومع ذلك ما تزال الرسائل تصلني بالعشرات، تطلب الرأي الصريح في ذلك البيان وفي أمثاله من المواقف والبيانات. سوف أختصر رأيي في نقطتين:
(1) من حق الائتلاف على الثوار الدعم لا الهدم،
(2) ومن حق الثوار على الائتلاف الفهم والاستيعاب. ذلكم هو الموجز وإليكم التفصيل:
1- لم أؤيد البيان ولم أوافق على مضمونه ولا على توقيته، وكنت أودّ لو أنه لم يصدر أصلاً (رغم أن الجدل ما يزال قائماً بشأن صحّة نسبته إلى أصحابه، ولا سيما بعد النفي الذي صدر عن تجمع كتائب أحرار الشام).
الثورة تحتاج إلى كيان سياسي يرعى مصالحها ويخاطب العالمَ باسمها، فإذا هدمنا الائتلاف الوطني وجب علينا إنشاء غيره، فهل في يدنا أن ننشئ غيره؟ ولو أن هذا كان ممكناً فكم من الوقت يستغرق؟ لقد أنفقنا نصف عام لإنجاز أول كيان سياسي حقيقي، “المجلس الوطني”، ثم لم يُرضِ أكثرَ الناس! ثم إن أي كيان سياسي لا يكون مفيداً للثورة إلا إذا حصل على الاعتراف الدولي، لأن أهم وظائفه هي التواصل مع العالم الخارجي. إذا فكرنا بهذه الطريقة فسوف نختار مراقبة الكيان السياسي الجديد وتصحيح أخطائه، وتوجيهَه وتسخيره لخدمة الثورة ورعاية مصالحها وتحقيق أهدافها، لأن ذلك كله خير وأجدى من محاربته وهدمه.
نحن نعلم أن العالم لن يتوقف عن الضغط على ثورتنا حتى يخفض سقفها ويقصّ أجنحتها وينال منها مبتغاه. صنع ذلك مع “المجلس” من قبل ويصنعه مع “الائتلاف” اليوم، وسوف يصنعه مع أي كيان سياسي جديد ينتجه الشعب السوري. فنحن بين خيارين: الاستغناء عن العالم كله وإقناع أنفسنا بأن سوريا يمكن أن تعيش معزولة عن الدنيا، وهذا لا يمكن، أو الانفتاح الحذِر والمشاركة في لعبة السياسة التي لا بد منها لأي دولة، والتي نحن أحوج إلى إتقانها من غيرنا بسبب التعقيد الهائل لقضيتنا؛ وإذن فلا مناصَ من كيان سياسي يمثّلنا. إذا كان الأمر كذلك فإن كياناً فيه رجال ثقات مشهودٌ لهم بالدين والوطنية خيرٌ من غيره، فإذا لم يحققوا لثورتنا كل المكاسب فإنهم يحمونها -على الأقل- من المؤامرات.
إن السياسة لعبة معقدة والتعامل مع القوى الدولية محفوف بالمخاطر، فهل نتركها ونتقوقع على أنفسنا خوفاً من أخطارها؟ لو أننا غلّبنا الخوف في حياتنا لما تناول مريضٌ دواء خوفاً من آثاره الجانية ولما سافر مسافرٌ في طيارة ولا سيارة خوفاً من حوادث السيارات والطيارات! ولكننا نتداوى ونسافر ونتخذ الأسباب ونتوكل على الله، ومَن اتخذ الأسباب واستعان بالله حق الاستعانة وتوكل عليه حق التوكل فإنه يُرجى له الفوز إن شاء الله.
2- أقدّر وأفهم دوافع الغضب التي دفعت أصحاب البيان إلى إصداره، وأرجو أن يفهمها وأن يقدّرها إخواننا في الائتلاف وأن تدركها القوى العربية والدولية التي تضغط عليه. يجب أن يدرك الجميع أن تجاهل الشعب السوري والاستخفاف به لن يزيده إلا إصراراً على مَطالبه وتشبثاً بهويته. يجب أن يدركوا أن المبالغة في مغازلة الأقليات والمبالغة في الحرص على تطمين العلويين من شأنه أن يزيد الاحتقان وأن يقضي على اللحمة الشعبية المطلوبة بين الثورة والائتلاف. إن ثوار سوريا وضحايا النظام السوري (وغالبيتهم الساحقة من أهل السنّة) يريدون إنصافاً ويريدون تطميناً؛ هذا وحدَه هو ما يمكن أن ينزع فتيل الاحتقان ويَحول دون تكرار مواقف متشنجة من النوع الذي رأيناه في بيان حلب.
بقيت مسألة تعرّض لها بيان ثوار حلب فتجادل فيها الناس وذهبوا كل مذهب، وهي مسألة الحكم بالإسلام. لئن كنا سمعناها في هذا البيان فما أكثر ما سنسمعها في غيره، ولئن أثارت اليوم جدلاً طويلاً فما أكثر ما ستثيره من جدل في غير هذا اليوم من أيام، فلا بد من كلمة موجزة فيها، وللتطويل مقام غير هذا المقام:
إن الشعب السوري الأبيّ ما عاد يرضى بالدنيّة بعد اليوم ولا يحب أن تُفرَض عليه الوصاية، إنه ليس قطيعاً من البهائم ولن يقبل أن يُقاد كما يقاد القطيع. فيا ثوار سوريا الكرام: لا تتوهموا أن التديّن يمكن أن يُفرَض بالقوة، ولا يحملنّكم السلاح في أيديكم على الظن بأنكم أرشد من غيركم، فلقد رأينا ورأيتم من وعي الناس ما يُدهش أولي العقول والأفهام. احترموا عقولهم واحترموا إراداتهم، واتركوا هذه المسألة للشعب ليقطع فيها برأيه لأنه يأنف أن يُفرَض عليه رأي القوي لمجرد أنه قوي. وما أدراكم لو فرضتم عليه الإسلام فرضاً أن يصنع كما صنع أبو محجن الثقفي؟ لقد بقي يشرب الخمر ويُجلَد عليها مدة، فلما كان منه ما كان يوم القادسية أطلقه سعدٌ وقال: لا أجلدك فيها أبداً، فقال أبو محجن: “وأنا والله لا أشربها أبداً، إنما كنت آنَفُ أن أدعها من أجل جَلْدك”.
إن الإسلام هو اختيار غالبية السوريين بإذن الله، فلو أنهم مُنحوا الحرية لاختاروه ولم يختاروا غيره، ولو أن أحداً حاول أن يفرضه عليهم بالقوة فربما كرهوه ونفروا منه لا قدّر الله. فاضمنوا الحرية للناس ودافعوا عن حقهم في الاختيار، وبإذن الله لن يسيء الأحرار الاختيار ولن يترددوا في اتخاذ القرار.