تنبيه ورجاء: هذا حديث من أربع حلقات، أتمنى ممّن قرأ واحدة منها أن يقرأ الحلقات الأخرى حتى لا يخرج بفكرة ناقصة أو يفهم المسألة على غير وجهها، ولولا أن أطيل لجمعتها كلها في مقالة واحدة.
المقالة السابقة أدخلتني في حقل الألغام؛ ساقتني إلى المنطقة المحرَّمة التي يتحاماها السياسيون ويتحاشاها الكتّاب، فتركوها لاثنين من الهواة: أحدهما اقترح التفريط في الدين لأنه يتعارض -برأيه- مع الشراكة في الوطن، والثاني رفض “المواطَنة” من أساسها لأنها تتعارض -برأيه- مع الدين.
لا أدري لماذا ينسحب المفكرون من الميدان ويهابون الحديث الصريح في هذا الأمر الحساس، ولا أعلم في أي شيء يتعارض الانتماء إلى الدين والانتماء إلى الوطن حتى يتحتم على المرء إجراء القرعة بينهما! تعالوا نفكك هذا الموضوع المعقد إلى مكوّناته البسيطة.
* * *
أكثر قراء هذه المقالة لهم وظائف وأعمال، فلنتخيل موقعاً من مواقع الأعمال، وليكن مستشفى من المستشفيات. هذا المستشفى يعمل فيه جيش من الأطباء والطبيبات والممرضين والممرضات، وهم يشتركون في المسؤولية عن نجاحه فيلتزمون بالتعاون المخلص ويتبادلون المودة والاحترام. ولا شك أنهم تربطهم رابطة من نوع ما، انتماء إلى المستشفى الذي يعملون فيه ويحملون اسمه ويفتخرون به ويحرصون على سمعته، حتى لو تعددت ألسنتُهم وتنوعت طوائفهم ودياناتهم. لكن هل تبلغ تلك الرابطة بينهم من القوة أن يصبح الواحدُ منهم أقربَ إلى الآخر من أمه وأبيه وأخته وأخيه وزوجته وبنيه؟ لا يمكن. مهما تقارب زملاء العمل ومهما اشتركوا في حمل الهمّ الواحد والسعي إلى الهدف الواحد فإن علاقات الدم والقُربى أوثق وأبقى.
هذا مثال الانتماء إلى الدين والانتماء إلى الوطن. أبناء الدين الواحد كلهم إخوة فيه، وأبناء الوطن في الوطن شركاء. المسلم والمسيحي والدرزي والإسماعيلي شركاء في الوطن السوري، يجمعهم انتماء واحد وهَمٌّ واحد وهدف واحد، ولكني لا أتخيل أن يكون المسلم السوري أقربَ إلى الدرزي السوري من الدرزي اللبناني، ولا أستطيع أن أشعر بأن المسيحي السوري أقرب إليّ من المسلم الهندي أو الملاوي.
يجمع بيننا الودّ والاحترام والتعاون والانتماء إلى الوطن الواحد، ولكن رابطة الدين تبقى أقوى من رابطة الوطن مهما بلغ حبنا للوطن وانتماؤنا إليه؛ هذه حقيقة من حقائق الحياة، ومن أنكرها فقد دفن رأسه في الرمال. لقد أراد حزب البعث الذي سطا على سوريا واستعبد أهلها خمسين سنة، أراد أن يذيب الرابطة الدينية وأن يصهر الناس في رابطة قومية عرقية عربية، ولكن الثورة السورية المباركة أثبتت أن ما صنعه البعث في نصف قرن لم يكن غير قشرة رقيقة، طلاء مزيف لم يلبث أن جَفّ ثم تفتّتَ ونثرته الريح. تسع وأربعون سنة مضت والناس أنّى التفتوا قرؤوا شعار البعث: “أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة”، ثلاثة أجيال نشأت وهي تردده في المدارس كل صباح، ثم جاءت الثورة فكشفت الغطاء. نادى الثوار “يا الله” فتجاوبت بالنداء بلادُ الإسلام ووقف المسلمون مع إخوانهم المستضعفين وأمدوهم بالمال والدعاء، ونادى العبيد “يا علي” فتدفق المدد من إيران ومن شيعة لبنان واليمن والعراق. لقد انتصرت الرابطة الدينية على رابطة العرق والوطن.
نعم، إن العلاقة الأعلى هي رابطة الدين، ولكنها ليست رابطة عنصرية عمياء، فالذي يدّعي الإسلامَ ثم يخالف سلوكُه دعواه لا يستحق أخوّة الإسلام، لا يستحقها الفَسَقة والمنافقون والبائعون الدنيا بالدين ولو كانوا في الظاهر من المسلمين. عندما يصطَفّ مع الباطل من يَدّعي الإسلامَ ويصطف مع الحق من ليس مسلماً أصلاً فإن الثاني أقرب إليّ من الأول ولو زعم الأول أنه حجة الإسلام وإمام المسلمين. هذا البوطي يدّعي لنفسه ذلك الفضل ويدّعيه له أولياؤه ومريدوه، وهو يصلي ويصوم ويزعم أنه مسلم ثم يحارب الله ورسوله وأولياءه، فأي رابطة بقيت بيني وبينه بعد ذلك؟ هذا الرجل وأمثاله من الذين وقفوا مع الطاغية وأعانوه على الطغيان ليسوا منا ولسنا منهم، الدرزي الشريف فيصل القاسم والعلوي الشريف حبيب صالح أقرب إلينا منهم وأحبّ إلى قلوبنا، وعملُهما أصلحُ ممّا يعملون.
* * *
إن “الوحدة الوطنية” تقتضي الشراكة في بناء الوطن وحفظ الوطن، وفي هذه المهمة الجليلة يتساوى الجميع، المسلمون والمسيحيون والدروز والإسماعيليون، ويتساوى فيها العرب والأكراد وسائر القوميات والطوائف. لكن هذا لا يعني أن تفقد كل جماعة من تلك الجماعات هُويّتها وأن تتخلى عن خصائصها وأن تذوب في غيرها. مَن منكم زار الولايات المتحدة؟ إنها بلاد الأجناس والأعراق والطوائف والديانات، وإنك لتجد كل جماعة منها ما زالت محتفظة بخصائصها الثقافية واللغوية والدينية ولو مضى على انتقالها إلى العالم الجديد عشرة أجيال، فالإيطاليون يتحدثون لغتهم ولهم مجتمعهم الصغير، ومثله للصينيين واليابانيين وغيرهم، وللكاثوليك كنائسهم وللأرثوذوكس كنائسهم ولليهود معابدهم وللهندوس معابدهم، والمساجد للمسلمين.
لم يقل أحد من الأميركيين إن عليه التخلي عن هويته والذوبان في هويات الآخرين ليثبت انتماءه للوطن الكبير، فلماذا تولد بيننا هذه الدعوات الغريبة؟ لماذا اتخذ بعض الناس شعاراً لهم هلالاً يعانق الصليب؟ هذا التصرف سخيف تماماً ولا معنى له، فإذا كان المقصود أن كل أبناء الوطن يتعاونون من أجل خير الوطن فلماذا لم يضعوا مع الصليب والهلال نجمة سداسية؟ أليس في سوريا يهود؟ وماذا عن العلويين والشيعة والإسماعيليين والدروز؟
أنا أشبّه الوطن (المجتمع الكبير) بالأسرة (المجتمع الصغير). يمكن أن تنشأ الأسرة من زوج مسلم وزوجة مسيحية. أليس هذا جائزاً في الإسلام؟ ورغم اختلاف الزوجين في الدين إلا أنهما يتفقان على حماية ورعاية مصالح الأسرة والأولاد، ويربط بينهما رباط من المودّة والرحمة والتفاهم والتعاون، لكنهما إذا خرجا من البيت وذهبا إلى العبادة فإن الرجل يتوجه إلى الجامع وتتوجه زوجته إلى الكنيسة. يبقى المسلم مسلماً والمسيحي مسيحياً رغم اشتراكهما في مشروع بناء الوطن، أما إلغاء هوية المسلم وهوية المسيحي ودمجهما معاً فإنه سخف كبير لا يجوز ولا يرضاه المسيحيون فضلاً عن المسلمين.
* * *
قلت إن “الوحدة الوطنية” هي الشراكة في بناء الوطن وحفظ الوطن وإنها مهمة جليلة يتساوى فيها الجميع، ولكن لا بد من إضافة ضابط مهم يحافظ على الهوية العامة للدولة السورية. وما هذه الهوية؟
سأسأل أولاً عن هوية سوريا اللغوية: هل تقبلون أن تكون سوريا بلا هوية لغوية؟ أم تقولون إنها متعددة الهويات: عربية وكردية وكلدانية وآشورية وسريانية وعبرية؟ حتى الآن لم يتجرأ أحد على القدح في الهوية اللغوية، فإن الإجماع منعقد -باستثناء الأحزاب الكردية القومية- على هوية سوريا العربية، مع الاحترام المطلق والاعتراف الكامل بحقوق الأقليات اللغوية والثقافية. لماذا لا يجد بعض الناس غضاضة في تحديد الهوية اللغوية ثم يجدونها في تحديد الهوية الدينية؟ لماذا لا يكونون منسجمين مع أنفسهم ويعترفون بالهوية الإسلامية لسوريا، مع الاحترام المطلق والاعتراف الكامل بحقوق الأقليات الدينية (المسيحيين واليهود) والطائفية (الدروز والإسماعيليين والعلويين والشيعة)؟
إن سوريا دولة عربية مسلمة، فهل يصحّ أن يمثلها ويلي أعلى المناصب في إدارتها من لا يتحدث اللسان العربي؟ لا ينسجم هذا مع الهوية العربية ولا يصحّ، وأيضاً لا ينسجم مع الهوية الدينية ولا يصحّ أن يرأسها من ليس مسلماً، وهذا هو الضابط الذي لا بد من إضافته إلى عموم وصفنا للمساواة في شراكة الوطن.
إن غيرنا من الأمم يشاركنا في هذا الأمر بالاتفاق الضمني كما في أميركا، أو بالنص القانوني الدستوي كما في أكثر الدول الأوربية، وهو أمر أثبته الأستاذ فيصل القاسم في مقالة قَيّمة مُنصفة نشرها قبل سبعة عشر شهراً بعنوان “أيتها الأقليات، لا تقفي في وجه الثورات”، وقال فيها: “رغم علمانيتها المعلَنة فإن دساتير الدول الغربية تنص على أن يكون الرئيس أو الملك من طائفة الأكثرية”، ثم أوضح بالتفصيل كيف نَصّت دساتيرُ عدد كبير من الجمهوريات والممالك الأوربية على هذا الشرط علناً وبلا مواربة.
فإذا كانت دساتير تلك الدول وقوانينها تمنع من لا ينتمي إلى ملّتها من تولي أمرها فإن دستورنا -الذي هو ديننا- يمنع ذلك أيضاً، فتبقى الولاية الكبرى في الدولة ووزارات التفويض حكراً على المسلمين ويشاركهم الآخرون في وزارات التنفيذ (كما صرح بذلك الماوردي في الأحكام السلطانية وغيرُه)، وينسحب الحكم على كل منصب يتيح لصاحبه تغيير حاضر البلاد ومستقبلها.
ولا عيب في هذا القيد ولا يحرجنا التصريح به، فإن ماضينا المشرق يقول إن تولي الأكثرية المسلمة للمناصب العليا في الدولة لم ينقص من حقوق الأقليات شيئاً، وعلّمتنا التجارب القاسية أن التهاون والتفريط في هذا الأمر اليسير يترتب عليه الثمن الخطير الكبير، ولقد ضاعت سوريا ودفعنا مئة ألف شهيد لاسترجاعها لأننا أسندنا منصب شؤون الضباط في الجيش إلى ضابط علوي قبل نصف قرن، وأوشكت دولة خليجية صغيرة أن تضيع من قريب لأن شيعةً من أولياء إيران سيطروا فيها على إدارات الابتعاث والتعيين في وزارتَي الصحة والتعليم.
* * *
بقيت كلمة أخيرة: إن “الوحدة الوطنية” هي الشراكة في بناء الوطن وحفظ الوطن، وهي مهمة نبيلة جليلة يشترك فيها أهل الوطن كلهم ضمن رابطة من الودّ والاحترام ووحدة الهدف والمصير، وهذا العموم يدخل فيه كل من عاش على الأرض السورية -على اختلاف انتماءاتهم وأديانهم وطوائفهم- باستثناء العلويين؛ فإنهم قد أتيحت لهم الفرصة ليثبتوا أنهم شركاء في الوطن، فرصة طويلة بطول الكابوس الطويل الثقيل الذي سربل سوريا بالظلم والظلام، فأثبتوا أنهم شركاء فاشلون، بل أثبتوا أنهم معتدون ومحتلون، واليوم أثبتوا أنهم قتلة ومجرمون. فعن أي شراكة تبحثون معهم يا أصحاب مشاريع التعايش والمصالحة الوطنية؟ لا، لن يكون العلويون شركاء متساوين في الوطن السوري وفي سوريا رجال.